الأربعاء، 6 أبريل 2016

تابع رومنسية القصيبي 2

       أما النوع الثاني من ألوان الحب الرومانسي ، فهو ذلك الحب المملوء بالرغبة الجامحة ، والطافح بالشهوة المائرة للحب الحسي الذي يصف مفاتن المرأة وقصصها الغرامية ، ويجسدها رغبة لاهثة وراء الغريزة ، وهذا النوع من الحب الحسي والنرجسي يمثل السمة الغالبة في شعر القصيبي ويظهر أواره في كل دواوينه ، حتى بعد أن عزته جحافل الكهولة .
      وسيطرة الحب الحسي على القصيبي أثر من آثار الحرمان الذي يعاني منه الشعراء في منطقة الخليج عامة بسبب الحواجز الاجتماعية والعادات المتوارثة والمفاهيم الأخلاقية التي ينبغي تجاوزها . وهو إلى جانب ذلك امتداد لتأثر هؤلاء الشعراء بالمدرسة النزارية التي جعلت العلاقة التي تحكم الرجل والمرأة علاقة قائمة على تحقيق الرغبات الجنسية والشهوات المليئة بالميل إلى التواصل واللقاء ، متخطية في ذلك كل المثل والأخلاق والنظرة الطيبة للمرأة باعتبارها مخلوقا إنسانيا لا بد أن يحظى بالرعاية الحب الصادق الدافئ ، والتقدير القائم على أسس من الخلق والعقيدة .
      من هنا كان جل شعره يدور حول جسد المرأة ، في تجارب لا يبرز من خلالها صدق العواطف ، ولا الحب الشريف ، بل يطل من سياقاتها فحيح الرغبة المحمومة في إشباع نهمة الجنسي الذي يصور له جسد المرأة وفتنتها ليس غير ، بعيدا عن كل عاطفة إنسانية . يقول من ( الخفيف ) :
لم يزل في الكئوس يا لعنة الليل  ـــ بقايا .. وفي الظلام سكارى (1)
فاخطري تصرخ الغرائز حمرا ــــ وارقصي تزفر الجوانح نارا
أي إثم على شفاهك قان  ـــــــــ يتصبى الظنون والأفكارا ؟
وعلى الوجنتين .. أي خيال   ــــ من جنون الصبا المعربد ثارا ؟
     ولم تقف حسية القصيبي وحبه المحموم للمرأة عند بعض الأوصاف الظاهرة لجسد المرأة ، بل تجاوزها إلى البوح عما يشتعل في داخله من شهوة تحترق فتصور له المرأة جسد رخيصا مبتذلا ، لا يرتبط بعواطف الشاعر ومشاعره النبيلة بقدر ما يرتبط بنزواته ورغباته الجنسية الكبوتة ، يقول ( من الرمل ) :
لا تقولي " أنا أهواك ! " ..
لما في الحب من زهر وخمر
لجنون القبلة الحمقاء
لليل الذي ـ يجمعنا صدرا بصدر (2)
     ولم يكن القصيبي في حبه صادقا بحال من الأحوال ، فالحب عنده نزوة شيطانية ، وما المرأة في تصوره سوى وعاء يفرغ في شحناته الجنسية ، يبحث عنها في كل مكان ، ويستبدلها بغيرها في أي وقت يشاء ، فهي لا تعدو في عرفه سوى للتسلية وإشباع للرغبة استمع إليه يقول من ( الوافر ) :
       أحبا؟! كيف يرضى الشعر سجنا ؟ ـ أحبك؟!كيف يغريني الإسار
         ولي شوق يجن إذا يثنى ــــــــ له قد .. وشجعه سوار
        ومازالت عيون الغيد تغوى  ـــــ وما زال الصبا كأسا تدار
        وفي الدنيا نهود من رخام  ــــــ يثور على تثاؤبها الإزار
        ولي في كل عاصمة غرام ــــــ ولي في كل أمسية ديار (3)
     ويقول في قصيدة أخرى مصرحا بحبه المتقلب ، وغرامه المتغير وهي من الوافر :
             نعم!أحببت قبلك ألف مرة ــــ وذقت الحب نشوته ومره     
                الحب دنيا من خيال  ــــــ ووهما كالجنون أهيم عبره
             ...    ....
            عرفت الغيد في غرب وشرق ـ بياضا صاخبا . ونقاء سمره
          وعشت براءة الأطفال حينا  ـ وعشت ضراوة الحيوان فتره (4)
     لقد اتخذ من التعددية في العشق والغرام مذهبا يتغنى به ، وأصبحت المرأة في قاموسه نوعا من الطعام أو الشراب يسد به نهمه ، ويورى به ظمأه ، فقد تجاوز عدد النساء المعشوقات في دنياه الحصر ، وغدون أصنافا وأنواعا مختلفة ، كل صنف يرضى لونا من غروره ، أو يشبع رغبة من رغباته استمع إليه يقول من المتقارب :
وأخرى .. وأخرى يطول الطريق  ــ ويعيا الفؤاد .. ويعيا العدد (5)
فمنهن من أشتهى للخيال  ــــــــ ومنهن من أشتهى للجسد
ومنهن من طيفها كالسراب  ــــــــ ومنهن من حبها كالأبد
   ومن خلال رؤيته المتقلبة للحب والحبيبات ، أو قل العاشقات نجده في بساطة مزرية يقدم عذره إلى المرأة التي خانها وغدر بحبها وانتقل إلى أخرى يبادلها غراما بغرام ، وكأن الأمر لا يتجاوز في مفهومه حد الاعتذار يقول  من الخفيف :
اعذريني فليس قلبي عندي  ـــــــ إنه عند غادة شقراء
لم أخن حبا .. ولكن قلبي  ـــ فر مني ... في لحظة هوجاء
اعذريني .. فالنار تشتاقها الأضلاع ـ إن كابدت صقيع الشتاء (6)
     وأخيرا يعترف الشاعر بأن الطريق الذي يسلكه لا يفضي إلى الحب ، وإنما هو نزوة وإشباع رغبة ، وشهوة ، وخطيئة ، أما الحب فلفظ أجوف وأغنيات زائفة ، ليس له وجود في هذا العالم العربيد . يقول من مجزوء الكلام :
الحب ؟ أين الحب ؟ لفظ  ـــــ أجوف فقد المعاني
لا تذكروه بربكم  ـــــــ أخشى عليه من الهوان
العالم العربيد أودى  ـــــــ بالعواطف والحنان
حتى أغاني الحب زائفة ــ الصدى ... حتى الأغاني (7)
     وخلاصة القول حول تجربة القصيبي مع المرأة كما أوضحنا من خلال خطابه الشعري وكما رصدها علوي الهاشمي : إنها تور مزدوج لحقيقة المرأة ينقسم إلى : عاطفة محمومة جامحة تشبع نفسها بالخيال الموهوم ، لأن محورها الحنين والحرمان ، وإلى شوق غريزي إلى جسد المرأة نما في ظل ذلك الحرمان ، وفي غياب العاطفة الإنسانية الصحيحة والمشبعة إزاء المرأة (8) . والذي يتصفح دواوين الشاعر لا يعزه البحث عن تلك الحقيقة التي أشار إليها الهاشمي . فإن كل قصيدة من قصائده أوجلها ، والتي تتحدث عن ظاهرة الحب / المرأة يلمس منها القارئ ازدواجية نظرة القصيبي للمرأة فهي الحبيبة الطاهرة حينا وهي المرأة المتنمرة التي يجب اصطيادها والعبث بها في أغلب الأحيان ، وهذا هو ديدن الشعراء الرومانسيين الذين تربوا عالة على المدرسة النزارية .
ـــــــــــــــ
1 ـ المجموعة الشعرية الكاملة ص70 .
2 ـ نفس المرجع 233 .
3 ـ نفس المرجع ص288 .
4 ـ نفس المرجع ص 375 .
5 ـ نفس المرجع ص 194 .
6 ـ نفس المرجع ص 425 .
7 ـ نفس المرجع ص436 .
8 ـ ما قالته النخلة للبحر لعلوي الهاشمي ص180 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق