الأربعاء، 6 أبريل 2016

تابع رومنسية القصيبي

الهروب من الواقع المرير :
     لم تكن ظاهرة التشاؤم ، والهروب من الواقع المزري ، والفرار إلى العزلة والانطوائية ، والانطلاق إلى عالم الرؤى والخيال والأحلام من الظواهر التي يتفرد بها القصيبي ، وإنما هي سمة عامة وقاسم مشترك كغيرها من الظواهر الأخرى التي تحدثنا عنها أنفا ، والتي سنتحدث عنها لاحقا بإذن الله ـ عند كثير من شعراء التيار الرومانسي العربي ، وقد تنبه الباحثون إلى شيوع هذه الظاهرة عند الشعراء فقال أحدهم ، " ولا نغلو في القول بأن الرومانسية هي حركة تشاؤمية ، كانت تلحف بذكر مظاهر الشؤم والعقم في الوجود ، وتستطلع آيات النعي في كل مطلع ، ونكره الوعي والصيرورة ، وتهرب من مواجهة الواقع في عالم الحلم والذكريات " (1)
    ويمكننا أن نلمح ظاهرة الحروب والإحساس بالتشاؤم عند القصيبي في قوله من قصيدة بعنوان " أغنية في ليل استوائي " (2)
أتيتك صحبتي الأوهام والأسقامُ ..
والآلام .. والخورُ
ورائي من سنين العمر..
ما ناء به العمر
قرون .. كل ثانية
بها التاريخ يحتضر
وقدامى
صحارى الموت .. تنتظر .
         وحول هروب الشعراء الرومانسيين إلى الأحلام يحدثنا أحد الباحثين قائلا " والحقيقة أن اللجوء للأحلام عند الرومانسيين سببه الرئيسي يكمن في كونهم يحصرون أنفسهم في الداخل من البداية ، العالم الداخلي عندهم بداية ونهاية ، وسيلة وغاية ، وهذا يجعل الكاتب منهم يلجأ بالضرورة إلى قوقعته ينسج فيها الأحلام التي تحقق له البعد عن الخارج ، أي عالم الواقع . ويظل هكذا منطويا على نفسه مستغرقا في التفكير في ذاته ليس غير " (3) . وما قاله الباحث ينسحب على القصيبي ، إذ نلمح في الكثير من قصائده حب العزلة والانطوائية ، استمع إليه يقول :
سأكتم حبك بين الضلوع
وأحيا أناجيه في وحدتي
وإن سألوني :
" أما من حبيب لديك يبادلك ..."
سأصرخ :" إني وحيد .. وحيد
بلا ذكريات " (4) .
        والقصيبي تتنازعه الحيرة حينا ، والضياع النفسي والكتابة حينا آخر . فيحاول الهروب من واقعه المؤلم المليء بكل متناقصات الحياة ، من زيف ونفاق ، وخداع ، ولكن إلى أين فلا يدري ، وإن كان يراوده أمل بالرحيل نحو الأمل ، يقول :
أريد أن أمضي بعيدا بعيد
خلف الغيوم البيض ..خلف النجوم
أريد أن أجتاز هذي الحدود
أريد أن أنسى الدُنا .. أن أهيم
لأين ؟ لا أدري ولكني
أريد أن أمضي بعيدا بعيد
أريد أن أرحل نحو الأمل . ( 5)      
     وتشتد تلك الروح التشاؤمية عند الشاعر ، فتطبق عليه وتهاجمه جحافلها من كل جانب ، فقدره مسود كشعر حبيبته ، وروحه هائمة حائرة ، وجسده متعب عليل من عناء الرحلة في عالم مزيف ، بحثا عن الحقيقة ونشدانا للمثالية ، ولكن هيهات أن يلتقيا في عالم أثقلته الآثام وكبلته الشرور يقول : " من الكامل "
قدري كعينيك أو كشعرك أسود ـــ روح محلقة وجسم مجهد ( 6)
يومي بألوان المرارة مترع ـــــ ويكاد يغرق في مرارته الغد
يأوي العذاب إلى جفوني مثلما ــ يـأوي إلى الوطن الرؤوم مشرد
حيران بتهم في الضلوع وينجد ــ ويلوب في جنبي الضياع مسافرا
اما العالم المثالي الذي ينشده الشاعر ويهرب إليه يصوره في هذه الأبيات قائلا : من البسيط .
أريده عالما لا يستبيح دما ـــــــ ولا ينقل في أوزاره القدما
أريده بسمة . لا تعرف الألما ـــ أريده ضحكة .. لا تذكر السأما
أريده دون خوف.. دون عاصفة ــ سوداء تنشر ليل الرعب والعدما
أريده يعرف الإنسان يعشقه ـــــ أريده يمنح المحروم ما حرما
أريده يمنح الأعمى نواظره ـــــ ويمنح الطفلة المشلولة القمما(7)
     وقد تمكنت النزعة التشاؤمية من الشاعر حتى جعلته يفر أحيانا إلى الماضي حيث الفطرة التي لم تفسدها المدينة أو يطلب الموت " أحيانا أخرى " لأنه السبيل الوحيد إلى التحرر والخلاص من قيود الواقع المرفوض يقول في الحنين إلى الماضي : من البسيط .
سمراء ! عشرون من عمري تعاتبني ـــ فأينا أجدر الخلين بالعتب (8)
سمراء ! هل يرجع الماضي إذا رجعت ـ رؤاه تخطر بين القلب والهدب ؟
وهل يعود إذا عدنا له زمن ــــ من البراءة ... منقوش على الحقب ؟
وهل أعود صبيا كله خجل ؟ ـــــــ وهل تعودين بنتا حلوة الشغب
       ومن ظواهر الهروب من الواقع أيضا الحنين إلى أيام الصبا والشباب وهو شعورا يعاود الشاعر كلما أخذ يرى بياضه الشيب قد بدأ يغزو مفرقه وأصبح وقع الأربعين والخمسين من السنين ثقيل على النفس إذا يوحي بالصراع بين الأنا والهموم والحزن والكتابة ويشعر بأن العمر أوشك على النهاية ويعود الشاعر القهرية إلى أيام الصبا وفورت الشباب يقلب صفحات ذكرياته ليعزي بها النفس ويخفف من قلقها وآلامها يقول :
عدت كهلا تجره الأربعون ــــ فأجيبي : أين الصبا والفتون( 9)
ملء روحي الظما ... فأين عذارى ــ وبقلبي الهوى فأين الجفون
عدت بحرين .. لا الفؤاد فؤاد ـــ مثل أمسٍ .. ولا الحنين حنين
عدت والشيب بارق عبر فودي ــــــ وعلى مقلتي غيم هتون
      وفي حوار بين الشاعر وابنته يبوح فيه بتحسره على الماضي وخوفه من الحاضر المؤلم والمستقبل الخؤون وقد حاصرته السنون وأوسعته الأيام حربا تستنزف ما تبقى لديه من عزيمة يقول :
يا دميتي ! حاصرتني الأربعون مدى ــ مجنونة...وجراحا أدمت العمرا(10)
فمن يرد لي الدنيا التي انقشعت ـــــ ومن يعيد لي الحلم الذي عبرا؟
ما الشيب أن تفقد الألوان نضرتها ـــ الشيب أن يسقط الإنسان منحدرا
وما بكيت على لهوي ولا عمري ـــــ لكن بكيت طهري الذي انتحرا
وفي طلب الموت يقول : من البسيط
مات الصبي الذي قد كان يسكنني ـــ وكنت أسكنه ..والكائنات لنا (11)
مات الصبي فلا شعر ولا فرح ـــــ ليولد الكهل دنياه أسى ووني
أقول والألم المعطاء يشنقني ـــــ أقول لو تسمعين الشجو والشجنا
أريد أن تمنحيني الموت والكفنا ــــ فقد منحتك عمري والشباب أنا
      على أن الرومانسية ليست هروبا من الواقع ,بقدر ما هي طموح ورسم لعالم جديد , يشعر فيه الفرد بالرغبة في التحرر والانعتاق من بعض القيود الاجتماعية والضغوط النفسية والانطلاق إلى عالم رحب فسيح ينشد فيه الدعة والراحة والطمأنينة عالم يخلو من الزيف والنفاق والخداع وهي الاختصار" أشبه ما تكون بمرحلة المراهقة في حياة الأمة ، حيث أحلام اليقظة ، واضحة الخيال ، وتقديس العواطف , وشرنقة الذات تلتف حول نفسه " (12) .

رابعا ـ الهروب إلى الطبيعة :
أحس الشاعر الرومانسي بالقلق وشعر بالحزن ، فهرب من محاصرة الكتابة إلى الطبيعة ، يتغنى بها ، وبجمالها ، وافتنانها ، وسحرها ، هجر المدينة بتصنعها ، وتكلفها وضوضائها ، وأسوارها وأنطلق إلى عالم فسيح رحب يبثه همومه وشكواه ويبني فيه أكواخ حبي وعشقه ، ويتعلم فيها حكمة القدر ، ويقرأ على صفحات أوراقها ما لم يقرأه في جدر المدينة وأسوارها . وآلاتها الصماء وينعم فيها بحفيف أشجارها . ورقصات أغصانها ، وتناغم طيورها ، وصخب أمواجها ، وخرير جداولها التي أثارت في نفسه أشجانا وذكريات ، وحركت في أعماقه لواعج الشوق فهو في حنين دائم إليها . يقول : من الخفيف
يا سرابي الوحيد طال بي السير ــــ وحيدا... وضقت بالصحراء (13)
حن عمري الشقي للواحة الخضراء ــــــ للأغنيات .. للأنداء
      ولا يكتفي الشاعر بالحنين إلى الواحة وما يظللها من خضرة وارفة . ومياه ساحرة . بل يعاوده الحنين أحيانا إلى حياة الصحراء . حياة الفطرة  والحب .والوداعة , فهو يحن إلى ليلها , وقمرها , وطيب شذاها المنبعث من نوار العرار والخزامى فيقول : من الوافر
ودعت إليك يا صحراء
ألقى جعبة التيار
أغازل ليلك المنسوج
من أسرار
وأنشق في صبا نجد
طيوب عرار
وأحيا فيك للأشعار والأقمار (14) .
      وتعتبر الطبيعة , وذكريات الماضي , من الظواهر الماضية الأساسية في الشعر الرومانسي عامة , لذلك يقول عنها " دايتش daiches " " لقد تجلى المذهب الإبداعي في مظهرين بارزين الرجوع إلى الماضي وذكرياته واتخاذه مثلا أعلى , واللواذ إلى الطبيعة , والاتصال, بها , بل الاندماج فيها " (15). وعندما لا يجد القصيبي واحته الحقيقية ، واحة الطبيعة الخلابة ، ليلوذ بها من واقع مؤلم قاس ، وحياة ملؤها الشقاء والهموم والأسى ، يهرب إلى واحة الحبيبة ، ينشد فيها الحب والأمان والراحة من هم ثقيل ، يقول من ( الخفيف) :
يا أعز النساء! همي ثقيـل ـــــ هل بعينيك مرتع ومقيل ؟
هل بعينك حين آوى لعينيك ــــ مروج خضر وظل ظليل ؟
هل بعينيك بعد زمجرة القفر ــــ غدير .. وخيمة .. ونخيل؟ (16)
      والطبيعة عند الرومانسيين بمثابة الأم الرءوم تحنو عليهم ، وتغمرهم بظلها وظليلها ، ودفئها وحنانها ، فينداحون في أغصانها ، ويتلاشون في عناقها وحبها ، ولا يفرق بينهما إلا صوت العقل ، وقلما يوقظهم هذا الصوت يقول في قصيدة "غريب! غريب! غريب " (17) من (المتقارب) جمع بين عشيقتين الطبيعة والحبيبة في عقد من الدرر:
ذكرتك عند البحيرة ..
حيث تسير القوارب..يسبح سرب
من البط والبجع المتبختر..حيث
تنام السماء على خضرة الأرض..
تستغرب الأرض من زرقة السماء ـ
هل تذكرين البحيرة حين يطل عليها
الرفيق الأنيق الرقيق الوسيم
البعيد القريب ، القمر ؟
وهل تذكرين البحيرة والصبح يمشي
وئيدا وئيدا .. لكيلا يروح آخر حلم
غفا فوق مقلة آخر حسناء من
عاشقات البحيرة ؟
      وفي أحيان كثيرة لا يكتفي الشاعر بالجمع بين الطبيعة والحبيبة ، بل يصل به الأمر إلى حد المزج بينهما ، متخذا من المرأة / الحبيبة باعثا على التغني بالطبيعة " إذ غدت المرأة بعد أن استقلت الفنية والاجتماعية المنظار الذي يرى الشاعر من خلاله بقية الأشياء خاصة الطبيعة / الأم . ولولا المرأة ما كان يمكن أن يرى الشاعر أو يحس بجمال الكون والحياة من حوله " (18) .
استمع إليه يقول مازجا بين الحبيبة والطبيعة ، (من السريع):
لا تغضبي! ما الكون أن تهجـري ــ وما رفيق الأمل المسكر ؟ (19)
وما المنى . وخما نشيد الهـوى ؟ ــــ وما رحيق الكوثر الخير
وفيم يسرى في الرياض الشـذى ؟ ـــ وفيم يحلو البوح للأنهر ؟
وفيم يشدو بلبل في الربــــا ؟ ــــ وفيم تعلو ضجة السمر؟
ويتنامى هذا المزج لتصبح عيون الحبيبة هي الطبيعة ذاتها ، فيهرب لائذا بها . يقول (من السريع أيضا) (20) :
أمرح في عينيك .. أمشي على ـــ الرمال كالطفل ..ألم المحــار
أقطع المرجان ..آوى إلـــى ـــ كهفي الذي يحوي كنوز البحار
أشارك النــورس آفاقـــه ـــ حينا .. وأغف في ظلال القفار
واتبع الدلفين فــــي رحلة ـــ حدودها شواطئ لا تــــزار
       ومن ظواهر الهروب من الواقع أيضا الحنين إلى الطفولة ، وهي ظاهرة بارزة في شعر القصيبي . فقد أثقلت الحياة وهمومها كاهله ففر إلى عالم الطفولة ، وتقمص تلك المرحلة البريئة من مراحل نمو الإنسان لعله يجد فيها ما يخفف عن نفسه آلام الواقع القاسي وينسيه أحزانه وكآبته التي ما فتئت تطارده في كل مكان .           
     يقول مخاطبا الصحراء ، ملقيا بنفسه على صدرها ، وكأنها الأم الحنون التي تحتضن طفلها بعد هجر وطول غياب ، هذا الطفل الذي أعوزه دفء الأم وعطفها ، وحب الناس وحبها ، وقد رجع يجر أذيال الهزيمة من معركة الحياة التي خاضها بسيف المشاعر والأحاسيس يقول : من الوافر :
وعدت إليك يا صحراء (21)
على وجهي ، رذاذ البحر
وفي روحي سراب بكاء
...
رجعت إليك مهموما
لأني لم أجد في الناس
من يؤمن بالناس
رجعت إليك محروما
لأن الكون أضلاع
بلا قلب
" رجعت إلى يا طفلي ؟ "
أجل .. أماه .. عدت إليك
طفلا دائم الحزن
تغرب في بلاد الله ..
          وتمثل الطفولة عند الشاعر مرحلة من مراحل العمر البريئة النقية من كل الشوائب ، فلا مكر ، ولا خبث ، ولا دهاء ولا تدنسها الغرائز التي تفرزها سنون الشباب وأيام الكهولة ، ولا تصبغها هموم الحياة وآلامها بأصباغها السوداوية لذلك يجد الشاعر فيها رمز الوداعة والأمان ، فيتمنى لو عاد طفلا لا يشغله ما يشغل الكبار من هموم الدنيا ، ولا يدنسه ما يدنس وجداناتهم من آثام ، ومن هنا لا نجده يحن إلى الطفولة فحسب ، بل ويتمنى لو عاد طفلا ويموت طفلا يقول: من الرجز (22)
لو مرة نقول : ( لا )
نطهر من نفاقنا
نموت كالأطفال أبرياء
      وفي قصيدة أخرى نجده يعتب على الزمان الذي سلب منه طفولته ، وأخذ معها كل ما هو جميل عزيز على نفسه ، وترك له وحشة الكهل ، وشراسة الإنسان يقول : من الخفيف
ثم جاء الزمان يسرق مني ــــ الأعز .. الأعز .. من أصفيائي
نهب الطيش .. والتشرد في ــ الأحداق والغوص في جفون الظباء
قتل الشعر والقوافي .. فما أنطق ــــ إلا بغصـــة خرساء...
أخذ الطفل من ضلوعي .. وأبقى ـــ وحشة الكهل في ليالي الشتاء ( 23)
      والقصيبي من الشعراء الرومانسيين الذين حاولوا الفرار من الواقع المؤلم الحزين ، إلى عالم المثل والخيال ، فلم يجد إلا عالم الطفولة الواسع الرحب البريء (24) يلوذ به وينفث فيه آهاته الحرّى ، فيطلب من حبيبة العمر ورفيقة الدرب أن يفرا إلى روضة الطفولة يمرحان ويلهوان ولو ساعتين وكفى يقول من المتقارب :
نفر فديتك ! نحو الطفولة (25)
لو ساعتين
فنأكل في الشمس تفاحتين
وألقى عليك  بفزورتين
ونغرق .. نغرق في ضحكتين
نفر فديتك ! نحو الطفولة
لو ساعتين
وإن ضاع منا طريق الرجوع
نهيم على وجهنا ليلتين
ونغرق .. نغرق في ضحكتين

خامسا : الهروب إلى ساحة الحب :
      تعتبر ظاهرة الهروب إلى أحضان الحب الدافئ وإفراغ الشعراء عواطفهم الملتهبة فيها من الظواهر الرئيسية إلى جانب الطبيعة في الشعر الرومانسي بوجه عام . إن الطبيعة والحب ليسا بجديدين على الشعر العربي ، " لكن الجديد فيهما ، أنهما يمتزجان بوجدان الشاعر امتزاجا يكاد يتحد فيه الوجود الخارجي بالوجود الداخلي ، فتحتمل التجربة دلالات أرحب من الدلالات المألوفة في التجربة العاطفية التقليدية ، ويصبح للشعر مستويان : أحدهما مرتبط بحدود التجربة في الواقع الخارجي ، والآخر ناطق بأشواق الإنسان العامة ، وإحساسه بالكون والحياة والمجتمع " (26) .
      والحب عند الرومانسيين يتجاذبه نوعان من العواطف ، نوع يشكل فيه الحرمان والهموم والأشواق أساس التجربة الشعورية حزينة باكية ، يائسة تظللها أشواقه وتهويماته في سماء الحب : يقول القصيبي ( من الخفيف ) :
روعة الحب في العذاب وفي الحرمان ـــ ما شئت عذبيني واحرميني (27)
      وهذا اللون من الحب يعد في نظره ضربا من الوهم يصعب تحقيقه ، كما هو انعكاس لحالة نفسية قاهرة ، وعاطفة ملتهبة جامحة يقول من الخفيف : (28)
يا ابنة الوهم ! إنما أنت في ــــ دنياي حلم على جفوني محرم
كل حظي من الهوى نظرات  ــــــ دامعات .. وخافق يتألم
وشفاه تململ الشوق فيها  ـــــــــ فأبت إن تبوح أو تتكلم
وفراغ يعربد اليأس فيه  ـــــــــــ وليال رهيبة كجهنم
ويقول من قصيدة أخرى من الخفيف أيضا : (29)
فوق أفق الخيال .. فوق حدود ـــــ الشعر ما تبعتينه في دمائي .
لهب عاصف يؤرق روحي  ــــــــ وغيوم تثور في أجوائي
      ونتيجة لتك لعواطف المكبوتة التي تحركها عواطف الحرمان ، تلونها حالته النفسية لخطوطها السوداء ، ويلفها اليأس بضبابيته القاتمة يتساءل الشاعر عما إذا كانت الحبيبة ستشاركه هذا الشعور وتحس بما في داخله من وجد وأرق وشوق وصبابة يقول من نفس القصيدة :
أتحسين يا فتاتي بما في ــــــ  نغمي من صبابة وشقاء ؟
من بعيد يأتيك في هدأة الليل ــــ حنينا مروع الأصداء (30)
     وحنين لا يجد الشاعر استجابة حقيقته من المرأة / الحبيبة لتشاركه همومه . ، وعواطفه ، ونشوته وصبابته يستسلم لليأس ، والانطواء ، ويكتم به في داخله ، يقول من المقارب :
سأكتم حبك بين الضلوع (31)
وأحيا أناجيه في وحدتي
وإن سألوني : أذقت الهوى ؟
سأصمت في حيرة الجاهلين
وإن سألوني " أما من حبيب "
لديك يبادلك " القبلات ؟ "
سأصرخ : " إني وحيد .. وحيد
 بلا ذكريات " .
     ورغم يأسه واستسلامه للوحدة والعزلة ، ورغم كتمان حبه بين ضلوعه ، فإن بارقة من أمل تلوح في سماء أشواقه فتنير قلبه ، وتفتح أمامه دروبا جديدة لحياة مليئة بالأماني . يقول من المتقارب :
أراك وراء ليالي الجفاف  ـــــ خيالا يموج بشتى الصور(32)
ففي ناظريك أماني الحياة  ــــــ وفي شفتيك ابتسام القدر
وألمح وجهك عبر الفضاء  ــــــ يضيء بها لآته كالقمر
    غير أنا الحبيبة تبقى عنده حلما مستترا يبحث عنه على أمل اللقاء به . يقول :
أحن لطيفك عند الشروق  ـــــ وأشتاق خطوك عند السحر (33)
فأينك ؟! أين ترى توجدين ؟  ــــ وفي أي أفق بعيد السفر ؟
ومن أنت ؟ يا من وهبت الشباب  ـ لها .. وهي حلم نأي واستتر
فتاة الخيال ! لنا موعد   ـــــــ أعيش على يومه المنتظر
     ولكن أي يوم هذا الذي ينتظره الشاعر ليلتقي فيه الحبيبة ، وقد نأت عنه ووقفت دونها حواجز الواقع الاجتماعي ، لتحول دون تحقيق اللقاء ، وتعود إليه أصداء أغانيه خيبة أمل مرة ، وإحساسا قاتلا بالحرمان واليأس والفشل . فالحب في نظره وهم كبير ، وضرب من الخيال ، بل عاد كذبا وخداعا ونفاقا ، لذلك يطبب من الحبيبة أن تقطع ما بينها وبينه من أواصر المحبة والوجد والهوى . يقول من الرجز :
صديقي ! انفضي يديك من هواي ( 34)
من عمري الشريد .. من أيامي العجاف
من دمعة فاض بها صباي
من لوعة تحضنها دماي
لا تسألي " ألم تزل تحبني ؟!"
فالحب يا صديقتي وهم كبير
ويقول في قصيدة أخرى من الرمل :
أيها الحب لقد آن الفراق  ــــ لم يعد في قلبي الدامي اشتياق
عبث اليأس بأشواق الصبا   ــــ مثلما يعبث بالبدر المحاق
كل ما نزعمه عن حبنا ــــــــ كذب .. كل أغانينا نفاق
     وقد تجلى في هذا النوع من الحب عنده مظاهر الطهر والعفة ، وتلون بألوان المشاعر النبيلة والأحاسيس المرهفة ، التي ينظر الشاعر من خلالها إلى الحبيبة بأنها فتاة أحلامه التي ينبغي أن يحفها بسياج من المحبة والسعادة التي يحقق من تواجدها حلمه ولو في كوخ على هام السحب . يقول من المتقارب :
تعالي دقائق نحلم فيها  ــــــ بنافورة من رذاذ القمر
بأرجوحة علقت في النجوم ــ بأسطورة من حديث المطر
بكوخ على الغيم .. جدرانه  ــ ظلال . وأبوابه من زهر
بخيمة عطر .. يعب الغروب ــ شذاها ويسكر فيها السحر
ــــــــــــــ
1 ـ إيليا الحاوي : الرومانسية في الأدب الغربي والعربي ص 46
2 ـ المجموعة الشعرية الكاملة ص 768
3 ـ د/ سيد حامد النساج : الرومانسية والواقعية ص 19
4 ـ المجموعة الشعرية الكاملة ص 55
5 ـ نفس المرجع ص 68
6 ـ نفس المرجع ص 779
7 ـ نفس المرجع 531
8 ـ نفس المرجع ص 810
9 ـ نفس المرجع ص 681
10 ـ نفس المرجع ص 696
11 ـ نفس المرجع ص 802
12 ـ د. ماهر حسني فهمي :تطور الشعر العربي للحديث في منطقة الخليج ص70
13 ـ المجموعة الشعرية الكاملة ص 16
14 ـ نفس المرجع ص 264
15 ـ litt and society daiches p 170 -by -  نقلا عن الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث مصطفى السحرتي ص 214
16 ـ المجموعة الشعرية الكاملة ص 663
17 ـ المرجع السابق ص 742
18 ـ علوي الهاشمي ما قالته النخلة للبحر ص 171
19 ـ المجموعة الشعرية الكاملة ص22
20 ـ المرجع السابق ص 471
21 ـ المرجع السابق ص 262
22 ـ المرجع السابق ص 335
23 ـ عقد من الحجارة ص45
24 ـ انظر القصائد التي يلمح منها الحنين إلى الطفولة : المجموعة الشعرية الكاملة 56 ، 84 ، 128 ، 135 ، 154 وغيرها .
25 ـ المجموعة الشعرية الكاملة 705
26 ـ د . عبد القادر القط الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر ص14
27 ـ المجموعة الشعرية الكاملة 32
28 ـ المرجع السابق ص 56
29 ـ نفس المرجع ص 16
30 ـ نفس المرجع ص 19
31 ـ نفس المرجع ص 55
32 ـ نفس المرجع ص 39
33 ـ نفس المرجع ص 40
34 ـ نفس المرجع ص 87

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق