اللغة العربية الخالدة
مدونة تهتم بموضوعات اللغة العربية بشكل خاص والموضوعات التربوية بشكل عام.
الأربعاء، 26 مايو 2021
سيرة ذاتية
الجمعة، 21 أغسطس 2020
نشأة نظرية النظم وتطورها
نشأة نظرية النظم وتطورها
لم تكن هناك دراسات واعية للنظم في
العصر الجاهلي وحتى العصر الاموي ولم ترد اشارات علمية لتفسيره لان البلاغة مركزة
في طباع القوم وكان النظم من سليقتهم .
وكن مع بداية العصر العباسي الاول
بعد ان اختلط العرب بالعجم شعر المسلمون ضرورة المحافظة على القرآن الكريم لان
اللحن الذي أخذ يشيع على الألسن فطفقوا يلتقون الى نظمه و ينشئون العلوم التي
تحافظ عليه .
سيبويه ادرك اثر تنظيم الكلمات في
المعنى كما شرح كثيرا من اساليب النفي والاستفهام والشرط والتقديم والحذف التي
ظهرت فيها أوجه بلاغية .
ثم جاء الفراء و الف كتابه معاني
القرآن يتناول فيها الغريب بتفسيره وتوضيح معناه نحو تركيب الجملة القرآنية في
تقديم كلمة على آخرى .
والبحوث النحوية عند الفراء لا تخلو
من دلالة بلاغية احيانا حيث يشير الى خاصية اللفظ با استعمال اسم الاشارة و الاسماء
الموصولة للدلالات غير دلالات النحو وان كانت وثيقة الصلة بها
فالنظرة البلاغية واضحة عن الفراء
ولكنها نظرة جزئية لا تتجاوز الصورة الجزئية.
أبو عبيدة معمر بن المثنى دوره في
تطوير نظرية النظم من خلال كتابه اعجاز القرآن الذي حاول فيه شرح ما في النظم
العربي من تقديم او تأخير او حذف وقد سمي بحثه المجاز أي الطريق وضرب له مثالا
قوله تعالى ( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم ) . وعرفه تعريفا عاما دون وضع
مصطلح له (( ومن مجاز ما جاء مخاطبته مخاطبه الشاهد ثم تركت وحولت مخاطبته الى
مخاطبة الغائب ))
ان اعجاز القرآن في نظمه فقال وفي كتابنا
المنزل الذي يدلنا على انه صدق نظمه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد
وكذلك عمد الجاحظ الى تعريف النظم
والتفريق بين نظم القرآن ونظم سائر الكلام الفرق بين النظميين : وفرق مابين نظم
القرآن و تأليفة وسائر الكلام فليس يعرف فروق النظم واختلاف البحث والنثر الا من
عرف القصيدة من الرجز والمخمس من الاسجاع والمزدوج من المنثور والخطب من الرسائل .
كما الف الجاحظ كتابا نظم القرآن .
سقط على يد الزمان فلو بقى لعد شيئا
جديدا في تاريخ الدراسات القرآنية التي سبقته .
لقد فطن الجاحظ الى ان لكل كلمة في
القرآن دلالة مع صاحبتها في التركيب وهي توحي بمعنى في فقرة غير ماتوحي به في فقرة
ثانية فلايجئ اللفظ في الآية او الآيات مادان مؤديا للمعنى .
ينادي الجاحظ بجعل الالفاظ في تأليفه
.
نظرية النظم في الكلام ثلاثة اشياء :
1-
لفظ
حامل
2-
معنى
قائم
3-
ورباط
لها ناظم
وهذا ماعبر عنه الشيخ عبد القاهر
الجرجاني بقوله ( ان الالفاظ لا تتفاضل من حيث الفاظ مجردة ولا من حيث كلم مفردة
وان الفضيلة وخلافها في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها وما اشبه ذلك مما لا تعلق
له بصريح اللفظ ).
ابو هلال العسكري
وبهذا يكون قد اقترب اقترابا شديدا
من الشيخ عبد القاهر الجرجاني ووضع في يده مفاتيح نظرية النظم .
و تأخذ نظرية النظم في النمو على يد
الباقلاني فقد الف كتابا في اعجاز القرآن ضمنه فصلا عن وجود اعجاز القرآن وجعل
بينهما الاعجاز البلاغي
ومنها كلام العرب لا يشتمل على هذه
الفصاحة والغرابة والتصرف والبديع والمعني اللطيفة والفوائد الغزيرة والحكم
الكثيرة والتناسب في البلاغة والتشابه في البراعة على هذا الطول و انما تنسب الى حكميهم
كلمات متعددة والى شاعرهم قصائد محصورة
ومنها ان عجيب نظمه وبيع تأليفه لا يتفاوت
و لا يتباين علو ما يتصرف اليه من الوجوه التي يتصرف منها من ذكر قصص و مواعظ
واحتجاج وحكم و احكام و اعذار
ومنها ان كلام الفصحاء يتفاوت تفواتا
بينا في الفصل والوصل والعلو والنزول مما ينقسم اليه الخطاب عند النظم .
ومنها ان نظم القران وقع موقعا في
البلاغة يخرج عادة كلام .
ومنها ان الذي ينقسم عليه الخطاب من
البسط والاقتصار والجمع والتفرق والاستعارة والتصريح و التجوز والتحقيق وغيره من
الوجوه التي توجد في كلامهم موجود في القران مما يتجاوز حدود كلامهم المعتاد بينهم
في الفصاحة و الابداع والبلاغة .
ومنها ان الحروف الي بنى العرب
كلامهم تسعة وعشرون حرفا .
والنظم لايكون عاليا اذا لم تكن
الفاظه فصيحة فقال واعلم ان الفصاحة لا تظهر في افراد الكلام و انما تظهر في
الكلام بالضم على طريقة مخصوصة ولابد من الضم من ان يكون لكل كلمة صفة وقد يجوز ان
تكون هذه الصفة بالمواصفة التي تتناول الضم
فالفصاحة لا تكون للألفاظ من حيث
ذواتها و انما تكون فصحية بملاحظة صفات مختلفة لها كإبدال الذي تختص به وحركاتها
في الاعراب وموقعها في التقديم و التأخير
نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني :
و اخيرا يأتي الشيخ عبد القاهر
الجرجاني و يتلفلف هذه الفكرة من سابقيه بعد تدرجها في رحم النمو حتى ولدت على يد
القاضي عبد الجبار فكلفها عبد القاهر
الاهمية اكساب الانسان القدرة على
ادراك اعجاز القران وتذوق مواطن هذا الاعجاز واستشعارها
الدعامة الاولى :
ترتيب المعاني في النفس بموجب إعمال
العقل والفكر .
قال الشيخ عبد القاهر : فا اما نظم
الكلام فليس الامر فيه كذلك لانك تقتفي في نظمها اثار المعاني وترتيبها على حسب
تريب المعاني في النفس ثم نكر لفظ الدهر ليبين عظمة البلوى التي تحيط به او ان
تنكير الدهر جاء تبع لانكار النفس له
فقط اصبحت نفسه تنكر هذا الدهر فهو
زمن منكر عجيب فليس هوا الزمن الذي مر به وعاش فيه ايام كان سيد مطاع على الاهواز
جاء في خصائص التراكيب : ( تجيد انه
نكر دهرا ليشير بهذا الى انه دهر منكر مجهول فليس هوا الدهر الذي عهده الشاعر ايام
نعمته وولايته على الاهواز وقد كان الشاعر عاملا عليه من قبل الواثق ثم عزل في
وزارة محمد بن عبد الملك الزيات فهو ضائق ضجر بدهرا غادر .
الدعامة الثانية :
مراعاة السياق والموقع في التاليف .
يقصد به ضم الكلام بعضه الى بعض
فاللفظ المفردة لتثبت لها الفضيلبة وخلافها الا بحسب موقعها بالكلام يقول ان
الالفاظ لاتتفاضل من حيث هي الفاظ مجردة ولا من حيث هي كلام مفردة وان الفضيلة
وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة بمعنى التي تليها وما اشبه ذلك مما لا تعلق له
بصريح اللفظ .
ثم يضع لنا ميزانا نقديا حكيما
لاثبات هذه الدعامه واثرها في نظرية النظم وهوا ما يمكن ان نسميه بالعزل النقدي الفردي
.
الدعامة الثالثة :
توخى معاني النحو :
بعد ان اثبت الشيخ عبد القاهر لا نظم
في الكلم ولا ترتيب حتى يعلق بعضها ببعض ويبني بعضها على بعض وتجعل هذه بسبب من
تلك.
ان الالفاظ تتوالى في النطق بحسب
توالي معانيها بالنفس .
ويقول في موضوع آخر اعلم ان ليس
النظم ألا تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه و اصوله وتعرف
مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشي منها .
ثم يبرهن لنا الشيخ عبد القاهر على
فضل النظم وكيف ان توخى معاني النحو فيه يجعل الكلام سبيكة واحدة لا يمكن تقسيمها
او تجزيئها فإذا حاولنا ذلك عمدنا الى هدم الصورة الممتدة التي نسجها النظم : (
واعلم ان واضع الكلام مثل من يأخذ قطع من الذهب او الفضة فيذيب بعضها ببعض حتى
تصير قطعة واحدة وذلك انك اذا قلت ضرب زيدا عمر يوم الجمعه ضربا شديدا تأديبا له
فانك تحصل من مجموع هذه الكلم كلها على مفهوم هوا معنى واحد لا عدة معان كما بتوهمه
الناس وذلك لأنك لم تاتي بهذه الكلم لتفيده أنفس معانيها و انما جئت بها لتقيده
وجوه التعلق التي بين الفصل الذي هوا الضرب وبين ما عمل فيه و الاحكام التي هيا محصول
التعلق .
ويلفتنا الشيخ عبد القاهر الى امر
مهم في نظرية النظم فليس معنى مراعاة النحو ان يكتسب الكلام نفس الخاصية ويكون له
نفس التأثير في كل موطن فالتنكير والتعريف يختلف دورهما و تاثيرهما بحسب الموقع
والغرض الذي اتيا من اجله لذا لا يمكن ان تحدد للتنكير والتعريف وجوه وفروق بعينها
بل ليس لها غاية تقف عندها ولا نهاية تحدها .
يقول : و اذا قد عرفت ان مدار امر
النظم على معاني النحو وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها ان تكون فيه فا اعلم ان
الفروق والوجوه الكثيرة ليس لها غاية تقف عندها ونهاية لا تجد لها ازدياد بعدها ثم
اعلم ان ليست المزية بواجبة لها في انفسها من حيث هيا على الاطلاق ولكن تعرض بسبب
المعاني و الاغراض التي يوضع لها الكلام ثم بحسب موقع بعضها من بعض واستعمال بعضها
مع بعض .
أهمية نظرية الشيخ عبد القاهر الجرجاني التحليلية
في التذوق البلاغي :
ان نظرية النظم التي اصلها الشيخ عبد
القاهر في كتابه دلائل الاعجاز تعد حقيقة منهجا تحليلا رائعا في نقد الآثار
الادبية وان لم يكون هوا مبتكرها وان عد صاحبها واشتهر بها لأنه وسع مدلولها ومد
آفاقها وبسط القول فيها وقعد لها القواعد واستنبط الاصول ودعمها بالشواهد .
فمعظم النظريات الخالدة في العلم لا تعدم
ان تجد لها سوابق في اشارات المتقدمين وكتابتهم ولكن الفكرة التي تستحق اسم نظرية
هيا ما كانت لصاحبها فضل عرضها وتحقيها وتعليلها واستقراء امثلتها و ازالة ما يعرض
لها من شبهات ومحاولة تطبيقها في ميدان الدراسة الخاصة .
وترجع اهمية نظرية الشيخ عبد القاهر
الى انها تدعو المتذوق الى التغلغل في اعماق النص وعدم الوقوف عند ظواهر اللفظ بل
لابد من ادراك العلاقات بين الالفاظ لان اللغة عند الشيخ هيا مجموعة من العلاقات
وليست مجموعة الفاظ وفي ذلك يقول اعلم ان عنا اصلا انت ترى الناس في صورة من يعرف
من جانب وينكر من آخر وهوا او ان الالفاظ المفردة التي هيا أوضاع اللغة لم توضع
لتعرف معانيها في انفسها ولكن لان يضم بعضها لبعض فيعرف فيما بينها فوائد .
كما توصلت دراسة نجاح الظهار الى ان
الشيخ عبد القاهر ترك للنقاد أروع طريقة تمكنهم من التذوق السليم والنقد الهادف
هيا نظرية النظم التي بنى عليها كتابة الدلائل التي تعد حقيقة منهجا تحليلا رائعا
في كشف الطاقات الادبية كما نحا الشيخ عبد القاهر بمنهجه التحليلي منحى جديدا فبين
اثر النفس والتامل في دراسة الآثار الادبية .
كذلك عنى الشيخ عبد القاهر بالناحية
النقدية عناية تجعله من أوائل نقاد الادب العربي فقد استطاع من خلال تحليلاته
وتوجيهاته القيمة تلبية التذوق البلاغي عند الناقد فطالب با اتخاذ الذوق الموضوعي
منهجا عاما في كل عملية نقدية .
الثلاثاء، 3 ديسمبر 2019
رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد (2)
وانتهينا إلى المرج فإذا بناد عظيم، قد جمع كل زعيم، فصاح زهير: السلام على فرسان الكلام. فردوا وأشاروا بالنزول. فأفرجوا حتى صرنا مركز هالة مجلسهم، والكل منهم ناظر إلى شيخ أصلع، جاحظ العين اليمنى، على رأسه قلنسوة بيضاء طويلة. فقلت سرا لزهير: من ذلك؟ قال: عتبة بن أرقم صاحب الجاحظ، وكنيته أبو عيينة. قلت: بأبي هو! ليس رغبتي سواه، وغير صاحب عبد الحميد. فقال لي: إنه ذلك الشيخ الذي إلى جنبه. وعرفه صغوي إليه وقولي فيه. فاستدناني وأخذ في الكلام معي، فصمت أهل المجلس، فقال: إنك لخطيب، وحائك للكلام مجيد، لولا أنك مغزى بالسجع، فكلامك نظم لا نثر.
ورأى الخبيص فقال: بأبي هذا الغالي الرخيص، هذا جليد سماء الرحمة، تمخضت به فأبرزت منه زبد النعمة، يجرح باللحظ، ويذوب من اللفظ. ثم ابيض، قالوا بماء البيض البض، قال غض من غض، ما أطيب خلوة الحبيب، لولا حضرة الرقيب! ولمح القبيطاء، فصاح: بأبي نقرة الفضة البيضاء، لا ترد عن العضة. أبنار طبخت أم بنور؟ فإني أراها كقطع البدور؛ وبلوز عجنت أم بجوز؟ فإني أراها عين عجين الموز. وموشى إليها وقد عدل صاحبها بدرهمين، وانتهشها بالنابين، فصاح: القارعة ما القارعة؟! هية! ويل للمرء من فيه! ورأى الزلابية، فقال: ويل لأمها الزانية، أبأحشائي نسجت، أم من صفاق قلبي ألفت؟ فإني أجد مكانها من نفسي مكينا، وحبل هواها على كبدي متينا، فمن أين وصلت كف طابخها إلى باطني، فاقتطعتها من دواجني؟ والعزيز الغفار، لأطلبنها بالثأر! ومشى إليها، فتلمظ له لسان الميزان، فأجفل يصيح: الثعبان الثعبان! ورفع له تمر النشا، غير مهضوم الحشا، فقال: مهيم! من أين لكم جنى نخلة مريم؟ ما أنتم إلا السحار، وما جزاؤكم إلا السيف والنار. وهم أن يأخذ منها. فأثبت في صدره العصا، فجلس القرفصا، يذري الدموع، ويبدي الخشوع. وما منا أحد إلا عن الضحك قد تجلد. فرقت له ضلوعي، وعلمت أن فيه غير مضيعي. وقد تجمل الصدقة على ذوي وفر، وفي كل ذي كبد رطبة أجر. فأمرت الغلام بابتياع أرطال منها تجمع أنواعها التي أنطقته وتحتوي على ضروبها التي أضرعته، وجاء بها وسرنا إلى مكان خال طيب، كوصف المهلبي :
فصبها رطبة الوقوع، كراديس كقطع الجذوع؛ فجعل يقطع ويبلغ، ويدحوا فاه ويدفع، وعيناه تبصان كأنهما جمرتان، وقد برزتا على وجهه كأنهما خصيتان، وأنا أقول له: على رسلك أبا فلان! البطنة تذهب الفطنة! فلما التقم جملة جماهيرها، وأتى على مآخيرها، ووصل خورنقها بسديرها، تجشأ فهبت منه ريح عقيم، أيقنا لها بالعذاب الأليم. فنثرتنا شذر مذر، وفرقتنا شغر بغر، فالتحمنا منه الظريان، وصدق الخبر فيه العيان: نفح ذلك فشرد الأنعام، ونفخ هذا فبدد الأنام، فلم نجتمع بعدها، والسلام. فاستحسناها، وضحكا عليها، وقالا: إن لسجعك موضعا من القلب، ومكانا من النفس، وقد أعرته من طبعك، وحلاوة لفظك، وملاحة سوقك، ما أزال أفنه، ورفع غينه، وقد بلغنا أنك لا تجازى في أبناء جنسك، ولا يمل من الطعن عليك، والاعتراض لك. فمن أشدهم عليك؟ قلت: جاران دارهما صقب، وثالث نابته نوب، فامتطى ظهر النوى، وألقت به في سرقسطة العصا. فقالا: إلى أبي محمد تشير، وأبي القاسم وأبي بكر؟ قلت: أجل قالا: فأين بلغت فيهم؟ قلت: أما أبو محمد فانتضى علي لسانه عند المستعين، وساعدته زراقة استهواها من الحاسدين،وأما أبو بكر فأقصر، واقتصر على قوله: له تابعة تؤيده. وأما أبو القاسم الإفليلي فمكانه من نفسي مكين، وحبه بفؤادي دخيل؛ على أنه حامل علي، ومنتسب إلي.
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم، ... ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا؟
فقالا لي: هذا صاحب أبي القاسم، ما قولك فيه يا أنف الناقة؟ قال: فتى لم أعرف على من قرأ. فقلت لنفسي: العصا من العصية! إن لم تعربي عن ذاتك، وتظهري بعض أدواتك، وأنت بين فرسان الكلام، لم يطر لك بعدها طائر، وكنت غرضا لكل حجر عابر
صفة برغوث
فقال: وقعت لك أوصاف في شعرك تظن أني لا أستطيعها؟ فقلت له: وحتى تصف عارضا فتقول:
وسعى في قياد الريح يسمح للصبا، ... فألقت على غير التلاع به مرطا
صاحب أبي إسحاق بن حمام
ثم قال لي الأستاذان عتبة بن أرقم، وأبو هبيرة صاحب عبد الحميد: إنا لنخبط منك ببيداء حيرة، وتفتق أسماعنا منك بعبرة، وما ندري أنقول: شاعر أم خطيب؟ فقلت: الإنصاف أولى، والصدع بالحق أحجى ولا بد من قضاء. فقالا: اذهب فإنك شاعر خطيب. وانفض الجمع والأبصار إلي ناظرة، والأعناق نحوي مائلة.
وترى الطير على آثارنا ... رأي عين ثقة أن ستمار
وأنشد آخر قول النابغة :
قد عود الطير عادات وثقن بها، ... فهن يتبعنه في كل مرتحل
لهن لعاب في الهواء وهزة، ... إذا جد بين الدرعين قراع
فاهتز المجلس لقوله، وعلموا صدقه. فقلت لزهير: من فاتك بن الصقعب؟ قال: يعني نفسه. قلت له: فهلا عرفتني شأنه منذ حين؟ إني لأرى نزعات كريمة؟ وقمت فجلست إليه جلسة المعظم له. فاستدار نحوي، مكرما لمكاني، فقلت: جد أرضنا، أعزك الله، بسحابك، وأمطرنا بعيون آدابك. قال: سل عما شئت. قلت: أي معنى سبقك إلى الإحسان فيه غيرك، فوجدته حين رمته صعبا إلا عليك أنك نفذت فيه؟ قال:
ونفضت عني النوم أقبلت مشية ال ... حباب، وركني خيفة القوم أزور
قال: صدقت، إنه أساء قسمة البيت، وأراد أن يلطف التوصل، فجاء مقبلا بركت كركنه أزور. فأعجبني ذلك منه، وما زلت مقدما لهذا المعنى رجلا، ومؤخرا عنه أخرى، حتى مررت بشيخ يعلم بنيا له صناعة الشعر وهو يقول له: إذا اعتمدت معنى قد سبقك إليه غيرك فأحسن تركيبه، وأرق حاشيته فاضرب عنه جملة. وإن لم يكن بد ففي غير العروض التي تقدم إليها ذلك المحسن، لتنشط طبيعتك طبيعتك، وتقوى منتك.
نذم السحاب الغر في فعلها به، ... ونعرض عنها، كلما طلعت، عتبا
وقالت لي البغلة: أما تعرفني أبا عامر؟ قلت: لو كانت ثم علامة! فأماطت لثامها، فإذا هي بغلة أبي عيسى، والخال على خدها، فتباكينا طويلا، وأخذنا في ذكر أيامنا، فقالت: ما أبقيت منك؟ قلت: ما ترين. قالت: شب عمرو عن الطوق! فما فعل الأحبة بعدي، أهم على العهد؟ قلت: شب الغلمان، وشاخ الفتيان، وتنكرت الخلان؛ ومن إخوانك من بلغ الإمارة، وانتهى إلى الوزارة. فتنفست الصعداء، وقالت: سقاهم الله سبل العهد، وإن حالوا عن العهد، ونسوا أيام الود. بحرمة الأدب، إلا ما أقرأتهم مني السلام؛ قلت: كما تأمرين وأكثر.
فقلت لزهير: ما شأنها؟ قال: هي تابعة شيخ من مشيختكم، تسمى العاقلة، وتكنى أم خفيف، وهي ذات حظ من الأدب، فاستعد لها. فقلت: أيتها الإوزة الجميلة، العريضة الطويلة، أيحسن بجمال حدفتيك، واعتدال منكبيك، واستقامة جناحيك، وطول جيدك، وصغر رأسك، مقابلة الضيف بمثل هذا الكلام، وتلقي الطارئ الغريب بشبه هذا المقال؟ وأنا الذي همت بالإوزة صبابة، واحتملت في الكلف بها عض كل مقالة؛ وأنا الذي استرجعتها إلى الوطن المألوف، وحببتها إلى كل غطريف، فاتخذتها السادة بأرضنا واستهلك عليها الظرفاء منا، ورضيت بدلا من العصافير، ومتكلمات الزرازير، ونسيت لذة الحمام، ونقار الديوك، ونطاح الكباش .
ثم تكلمت بها مبسبسا، ولها مؤنسا، حتى خالتتنا وقد عقدنا سلمها وكفينا حربها، فقلت: يا أم خفيف، بالذي جعل غذاءك ماء، وحشا رأسك هواء، ألا أيما أفضل: الأدب أم العقل؟ قالت: بل العقل. قلت: فهل تعرفين في الخلائق أحمق من إوزة، ودعيني من مثلهم في الحبارى؟ قالت: لا قلت: فتطلبي عقل التجربة، إذ لا سبيل لك إلى عقل الطبيعة، فإذا أحرزت منه نصيبا، وبؤت منه بحظ، فحينئذ ناظري في الأدب. فانصرفت وانصرفنا .
رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد (1)
مقدمة
حظي النثر
في العصر الأندلسي بمكانة مميزة ربما تفوّق فيها على الشعر ؛ حيث تنوعت فروعه
وانضمت إليه القصة والتي تناولت الكثير من الأحداث والأبطال . وفي هذا قدّم ابن
شهيد ( رسالة التوابع والزوابع ) ؛ وهي رسالة أدبية نقدية أتت شكلاً جديدا للنثر.
وقد اختار ابن شهيد اسم التوابع والزوابع لكتابه
دالاًّ على المحتوى ؛ فالتوابع جمع تابع وهو الجني الذي يتبع الإنسان ويحبه
ويرافقه ، أما الزوابع فهي جمع زوبعة وهي شيطان مارد أو رئيس من الجن.
وتعد رسالة
التوابع والزوابع من أشهر مؤلفات ابن شهيد وأهمها ، وذلك لضمها آراءَه الأدبية
والنقدية ، واصطباغها بالطابع القصصي ، وبها كثير من الخيال ، فتدخل ضمن نوادر
وفي التوابع
والزوابع تخيّل المؤلف أنه قام برحلة إلى عالم الجن ، وهناك التقى بشياطين الشعراء
والكتاب ، ووقعت بينهم مناظرات أدبية تفوّق فيها ابن شهيد على الجميع ، وأرضى
غروره وذلك في إطار قصصي ، وفي رسالته التقى ابن شهيد بتوابع عدد من الشعراء
والأدباء منهم امرئ القيس ، وطرفة بن العبد ، وقيس بن الخطيم ، وأبو تمام ،
والبحتري ، وأبو نواس، والمتنبي ، والجاحظ ، وغيرهم .
ورسالة ابن
الشهيد : عبارة عن مدخل وأربع فصول :
فصل في
توابع الشعراء ، وفصل في توابع الكتاب ، وفصل في نقاد الجن ، وفصل في حيوان الجن.
الفصل الأول : توابع الشعراء
شيطان امرئ القيس
وثارت بنات الأعوجيات بالضحى ... أبابيل، من أعطاف غير وبيل
طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر، ... لها نفذ، لولا الشعاع، أضاءها
ثم انصرفنا، وركضنا حتى انتهينا إلى شجرة غيناء يتفجر من أصلها عين كمقلة حواء. فصاح زهير: يا عتاب بن حبناء، حل بك زهير وصاحبه، فبعمرو والقمر الكالع، وبالرقعة المفكوكة الطابع، إلا ما أريتنا وجهك! فانفلق ماء العين عن وجه فتى كفلقة القمر، ثم اشتق الهواء صاعدا إلينا من قعرها حتى استوى معنا فقال: حياك الله يا زهير، وحيا صاحبك! فقلت: وما الذي أسكنك قعر هذه العين يا عتاب؟ قال: حيائي من التحسن باسم الشعر وأنا لا أحسنه. فصحت: ويلي منه؛ كلام محدث ورب الكعبة! واستنشدني فلم أنشده إجلالا له، ثم أنشدته:
أبكيت، إذ طعن الفريق، فراقها ....
هوى قمرا قيس بن عيلان آنفا، ... وأوحش من كلب مكان زعيم
صاحب البحتري
ما على الركب من وقوف الركاب .....
حتى أكملها، ثم قال: هات إن كنت قلت شيئا. فأنشدته
هذه دار زينب والرباب
وارتكضنا حتى مضى الليل يسعى، ... وأتى الصبح قاطع الأسباب
فكأن النجوم في الليل جيش ... دخلوا للكمون في جوف غاب