الأحد، 8 أبريل 2018

الجاحظ (3)



أسلوب الجاحظ وسخريته
1-مؤلفات الجاحظ:
إن قلم الجاحظ الذي عالج كل أمر، وابتغى كل معنى، قد سطر العديد من الرسائل التي زججت حاجبيها، وصفقت شعرها، وفتنت بتفردها، القلوب الوالهة، والنفوس العاشقة، رسائل لم تغوص بشاشة وجهها، ولم يتهضم جانبها رغم كُرور الأيام، وتعاقب الحدثان، ولعل السر في ذلك يعود إلي الصفات التي اجتمعت في مبتدعها الجاحظ، تلك الصفات"التي لا تلتقي عند كل إنسان، ولا تجتمع في صدر كل أحد:بالطبع، والمنشأ، والعلم، والعادة، والعمر، والفراغ، والعشق، والمنافسة، والبلوغ، وهذه مفاتيح قلما يملكها واحد، وسواها مغالق قلما ينفك منها واحد". هذه الصفات برمتها أدت في نهاية المطاف بالجاحظ "إلي أن يكون إمام كُتاب العربية بلا منازع، حتى قال في حقه المسعودي:"ولا يعلم أحد من الرواة وأهل العلم أكثر كتباً منه".
ومؤلفات الجاحظ التي اتسقت عباراتها، وانتظمت ألفاظها تكاد تربو على الحصر، لأن صاحبها كان صاحب ساعد جدول، وعضل مفتول، وعقل موسوعي أحكمته التجارب، وهذبته المعرفة، لم يدع باباً إلاّ ولجه، ولا بحثاً، إلا صال وجال فيه، عقل إذا أراد أن يتخصص في ضرب من ضروب المعرفة لتعذر عليه ذلك، لغزارة المعلومات التي يختزنها في حافظته، ولاستقرائه الدقيق، وإطلاعه الشامل. ولتفتق قريحة الجاحظ، واتساع عقله الجبار،"كتب في جميع الفنون والآداب، قيل لـ ((أبي العيناء)):"ليت شعري، أي شيء كان الجاحظ يحسن؟ فقال:ليت شعري، أي شيء كان الجاحظ لا يحسن؟". ولقد أكثر الجاحظ من التأليف، حتى قيل: إنه بزّ من سبقه، ومن لحقه، ولعل اكثاره من التأليف يعود لامتداد عمره، ولقضائه شطراً من حياته مريضاً،فاضطر إلي ملازمة بيته، وقطع فراغه بالكتابة والتأليف. وربما كان سوء منظره سبباً في انصراف الناس عنه، فعنى بصناعة الكتب، ليعرفوا أن وراء هذا الوجه المشوه نفساً جميلة، وروحاً فكهة، وذهناً وقّاداً.
ومدونات الجاحظ التي ترمقها كل عين، وتشرئب إليها كل عنق، والتي يعتبرها كل أديب أريب أغلى من أقبية الديباج المخوص بالذهب، هاضتها عوادي الزمان، ومزقتها طوارق الحدثان، فضاع جلها، وبقى النذر القليل منها، وقد ذكر الدكتور الذي لم تصده عاهتة عن طلب العلوم طه حسين:"أنّ الجاحظ قد خلّف للعلم والأدب العربي أكثر من خمسين ومائتي كتاب، طُبِعَ منها بعض الكتب، وأشهرها البيان والتبيين، والحيوان، وكتاب البخلاء، ومجموع رسائله".
والحقيقة التي لا يغالي فيها أحد أن جهابذة العلماء على شاكلة بن النديم، وياقوت الحموي، وغيرهم من الغطاريف قد اختلفوا في جواهر الجاحظ التي لا تخلق ديباجتها ويخبو بريقها، و"أياً كان العدد الصحيح لكتب الجاحظ، ومؤلفاته، فإن حصر العدد في حد ذاته لا يهمنا في شيء، بقدر ما يهمنا أن الرجل كان غزير العطاء، عميق الفكر، محباً للقراءة والإطلاع والكتابة منذ صغره وحداثة سنه، إلا أن هذا اللبس في حصر كتاباته يرجع إليه نفسه، إذ كان ينسبها إلي مشاهؤر الكتاب في عصره، أو في العصر الذي سبقه. وذلك من أمثال:"ابن المقفع، والخليل، ومسلم صاحب بيت الحكمة، ويحي بن خالد"، وما ذلك إلاّ لكي تشتهر كتاباته وتنتشر، ويتقبلها القراء لمعرفتهم بمؤلفيها.لأجل ذلك ضاعت معظم مؤلفاته، وانتسب الكثير منها إلي غيره، ولم يبقى إلا القليل منها".
2-أسلوب الجاحظ:
الأسلوب الذي انتهجه الجاحظ، أسلوب يزاوج بين الجد والهزل، لأن الجاحظ عالم بمكنون النفس البشرية التي يخامرها السأم والكلال من مطالعة الكتب التي تتسم مادتها بالجد والجفاف أو تسير وتيرتها على نسق واحد، فكان الجاحظ استجماماً للنفس، ودفعاً لأي شعور بالرتابة يخلط الجد بالفكاهة، وفي ذلك يقول:"أنَّي أوشّح هذا الكتاب وأفصّلُ أبوابه بنوادر من ضروب الشعر وضروب الأحاديث ليخرج قارئُ هذا الكتاب من باب إلي باب، ومن شكل إلي شكل، فإنّي رأيتُ الأسماع تملُّ الأصوات المطربة، والأغاني الحسنة، والأوتار الفصيحة، إذا طال ذلك عليها، وما ذلك إلاّ في طريق الراحة التي إذا طالت أورثت الغفلة". والجاحظ تميز أسلوبه أيضاً بوضوح العبارة، وبساطة العرض، فقد تنزهت مؤلفاته عن التعقيد والإشكال، كما بعدت عن الحشو، والركاكة، والتعسف، فمصنفاته الموشية بذكائه اللماح، وعبقريته الفذة، وثقافته الواسعة، يمكن أن يدرك كنهها، ويحيط ببواطنها، البسيط الساذج، ومن استبطن دخائل العلم، واستجلى غوامضه، وذلك بالطبع قبل أن تتراجع العقول، وتجهد القرائح، وتقهر العامية الفصحى، ويتفشى الدخيل في اللغة التي حوت كتاب الله صوناً وحفظا.
وعلاوة على ذلك كان الجاحظ"يميل إلي تقطيع العبارة، وجعلها جُملاً قصاراً متعادلة، ويكثر من الجمل المترادفة، إقراراً للمعنى في النفوس. وهو ليستطرد إلي ما له صلة بالموضوع، من لذيذ الأخبار، وطريف الأحاديث، وومتع النوادر، تنشيطاً للقارئ، وترفيهاً عن نفسه، وذلك أظهر في كتبه المطولة ((الحيوان))". كما أن أسلوب الجاحظ الذي أطنب في تحقير الشعوبية والزراية عليها، أسلوب يصور الحياة بألوان صاخبة من الشعر العذب الذي يؤنس مطالعيه بوجهه المتهلل، والحكمة التي يختلس أسبابها، ويمتهن أربابها، بفضل المقدرة، ورجاحة العقل، وسعة المعرفة، أسلوب"يصور خلجات الروح، وآهات النفس، وأزمات العقل، ويرسم لك المحسوسات كأنك تحسها، ويصف لك المعلوم والمجهول، ويعرض عليك المعقول والمنقول، أسلوب سجّل المفاخر والمعاير، وحمل إلي أبناء القرون اللاحقة أفانين من أدب-كاتبه-جمّلها بروح الحق وسحر الجمال".
ولكن الجاحظ صاحب أنضر المعاني، وأرقّ الألفاظ، والذي لم يزف بعد شخوص مجده، وأفول أدبه، لأن كُتاب العربية أفرطوا في لزوم غرسه، وأوغلوا في ارتقاء جبله الأشم بمناكبهم الهشة، وعزيمتهم الماضية التي يحدوها الأمل أن تنال النذر القليل مما ناله أمير البيان العربي وشيخ النقاد، الجاحظ الذي كلنا له المدح جزافا بسط طلابه الذين هم بأجمعهم عيال عليه، ألسنتهم في مصنفاته التي منحت الحياة خصوبة وغني، وتحدثوا عن عيوبه رغم ما له من جلالة تغشى العيون، وقداسة تملأ الصدور، وأبانوا بأن مآخذ الجاحظ تتمثل في"الفوضى في سرد الأفكار أو الاختبارات العلمية، فلا تنسيق في كتاباته ولا تصميم، ولا تسلسل منطقي، وقد تكون أسمى ميزات العالم ميزة الترتيب والتنسيق والانضباط الأسلوبي، وهذه أمور بعيدة كل البعد عن صاحبنا، وهي إذا أسبغت على القضايا الأدبية شيئاً من الطرافة، إذ تبدد الملل في قضائها على الرتابة عن طريق الخلط بين الجد والهزل، فإنها في مضمار العلم تشوش الذهن، وتقضي على التركيز، حجر الزاوية، في التحقيق العلمي".
3- الغاية من الضحك في أدبيات الجاحظ:
الجاحظ رغم حياة الضنك والشدة التي عاشها في حياته، إلا أنه دعا إلي الضحك واقتناص أسبابه، وتكلف بوادره، ومما لا يند عن ذهن أو يلتوي على خاطر أن كتبه التي عضت الدهر بناب مسموم، وصاولته بمخلب قاتل، حتى تبقى على وجه الأديم، حافلة بالطرائف والقصص التي تضحك من استسلم للعبرة، واستخرط في البكاء ، والجاحظ لا يرى غضاضة في الضحك من أجل التسرية عن النفس، وإضفاء جو من التفاؤل والانبساط على وتيرة الحياة التي يعاني قاطنيها الغلاء المرهق، والفقر المدقع، والمرض المزمن، والهلع الذي تنخلع له القلوب، وتضطرب له الحواس، والحزن الذي لا يبارح شغاف الأفئدة، فقال:"ولو كان الضحك قبيحاً من الضاحك، وقبيحاً من المضحك، لما قيل للزهرة والحبرة والحلى والقصر المبني:كأنه يضحك ضحكاً، وقد قال الله عزّ وجلّ {وأنه أضحك وأبكى، وأنه أمات وأحيا}النجم:43،44. فوضع الضحك بحذاء الحياة، ووضع البكاء بحذاء الموت، وأنه لا يضيف الله إلي نفسه القبيح، ولا يمنّ على خلقه بالنقص، وكيف لا يكون موقعه من سرور النفس عظيماً ومن مصلحة الطباع كبيراً، وهو شيء في أصل الطباع، وي أساس التركيب، لأن الضحك أول شيء يظهر من الصبي، وقد تطيب نفسه، وعليه ينبت شحمه، ويكثر دمه، الذي هو علة سروره، ومادة قوته، ولفضل خصال الضحك عند العرب تسمي أولادها بالضحاك وببسام، وبطلق وبطليق، وقد ضحك النبي صلى الله عليه وسلم وفرح، وضحك الصالحون وفرحوا، وإذا مدحوا قالوا:هو ضحوك السن، وبسّام العشيات، وهش إلي الضيف، وذو اريحية واهتزاز، وإذا ذموا قالوا:هو عبوس، وهو كالح، وهو قطوب، وهو شتيم المحيا، وهو مكفهر أبداً، وهو كريه، ومقبض الوجه، وكأنما وجهه بالخل منضوح".
ولكن الجاحظ لا يدعو للغلو في الضحك، والإمعان فيه، الذهاب به كل مذهب، وذلك لأن"يمنع الشهوة ويورث الصدود". بل يدعو للضحك الذي يملأ النفس بالغطبة، والجوارح بالسرور، والجاحظ ديدنه في الكتابة أن يرفع الملل عن قارئه، ويستدر نشاطه بإيراد تلك النكات والنوادر التي تجعله يذوب في حميا اللهو، وينداح مع سكرة القهقهة، فيعاود القراءة بهمة ماضية، وعزم أكيد، يقول الجاحظ في صدر حديثه عن الجد والهزل:"خلطت لك جداً بهزل، وقرنتُ لك حجّة بمُلْحة، لتخِفّ مئونة الكتاب على القارئ، وليزيد ذلك في نشاط المستمع، فجعلت الهزل بعد الجد جماماً، والملحة بعد الحجّة مستراحاً". والجاحظ الذي خلع على الضحك أوسمة التبجيل، وأوصله إلي ذروة السعادة التي تبتغيها كل نفس، ويتلهف لنيلها كل فؤاد، يراه الجاحظ ضرورياً للترويح عن مشاكل الحياة وهمومها التي لا تنجلي أبداً، لذلك نجده يرى"أن الجِدّ نصب، والمزح جِمام، والجد مبغضة، والمزح محبة، وصاحب الجد في بلاء ما كان فيه، وصاحب المزح في رخاء إلي حين يخرج منه، والجد مؤلم، وربما عرّضك لأشد منه، والمزح ملذّ، وربما عرضك لألذّ منه، فقد شاركه في التعريض للخير والشر، وباينه بتعجيل الخير دون الشر. وإنا تشاغل الناس ليفرغوا، وجدوا ليهزلوا، كما تذللوا ليعزوا، وكدوا لستريحوا، وإن كان المزاح إنما صار معيباً، والهزل مذموماً، لأن صاحبه لا يكون إلا معرضاً لمجاوزة الحد، ومخاطراً بمودة الصديق".
وفنّد الجاحظ أن الإسلام حرّم المزاح، ودعا للكآبة والعبوس، فقال:"من حرّم المزاح، وهو شُعبة من شعب السهولة، وفرع من فروع الطلاقة، وقد أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحنفية السمحاء، ولم يأتينا بالانقباض والقسوة، وأمرنا بإفشاء السلام، والبشر عند الملاقاة، وأمرنا بالتوادد والتصافح والتهادي".



4-نماذج من سخرية الجاحظ وتهكمه:
طرائف الجاحظ وملحه التي تملأ شعاب القلب بالفرح والاستبشار،كثيرة لا تحصى، ولقد وضع في ذلك الكتب الخالدة خلود النفس البشرية إلي أن يأتي الله على هذه الدنيا الفانية، كتب تبرهن على أن الجاحظ قائد زمام هذا الجنس من الأدب الذي تفرد فيه، وعلا فيه كعبه، فكتاب البخلاء الذي وضعه يعتبر تحفة فنية خالصة لأن "البراعة الأدبية التي صاغ بها الجاحظ كتابه، والمقدرة الفنية التي ترقرقت فيه، وسرت في موضوعاته أسلوباً وغاية جعلته المتفرد في هذا المجال الذي لم يسبق إليه من قبل". فلقد تصدى الجاحظ لهذا الموضوع الذي كان يأتي نتفاً وبصورة عفوية في مؤلفات السابقين خالية من عامل الإبداع والتشويق، ومفتقرة لاستبطان دخائل النفوس، وإبراز خصائص المجتمع. تحدث الجاحظ بإسهاب عن الصور السالبة التي كانت سائدة في مجتمعه والتي كانت تثير مكامن نفسه، وتلهب حشاشته، وتجعله يغلي من الغيظ، ويفور من الغضب، ولكن أياً من هذه المشاعر الهادرة لم تبن في سفر الجاحظ الذي ظلّ كرصفائه حياً لم يعتريه الموت، والعلة في ذلك أن السخرية مؤثلة في طبع الجاحظ، تسري في شرايينه، وينبض بها قلبه، وإن كانت سخريته مثال رفيع لسخرية الذهن الدقيق الذي يعكف على تصوير مثالب المجتمع، ويعمل على وأد كل قالةُ سيئة تقلد مجتمعه قلائد الخزي والعار.
إنّ سخرية الجاحظ"متصلة بطبيعته المرحة وفنه، وبموقفه من الحياة وهو موقف التوجيه والنقد، فالسخرية عنده لم تقم على عاطفة شخصية عارضة كما تبدو عند من سبقه، ولم تقم على الهجاء الممض، ولا الشتم المقذع، وإنما هي راجعة إلي طبيعته ومزاجه". إذن الجاحظ استمد أيدلوجيته في السخرية والتهكم من فطرته التي فطره الله عليها، ولعل خير مثال يؤكد صحة ما ذهبت إليه، أنّ الجاحظ كان يروي سخرية الناس منه وتندرهم بدمامته، وقبح صورته، دون أن يتنزى صدره من الغضب والحنق، ققد قال عن نفسه"إنه وصف للخليفة المتوكل لتأديب أحد أولاده، فلما رأى صورته استبشعها فصرفه. وأنه اشترى له جارية تركية جميلة، رجاء أن يرزق منها ولداً بحسنها وذكائه، فولدت له ولداً جاء بقبحه وجهلها. ومن نوادره أنه سُمع يقول:رايت جارية في سوق النخاسين ببغداد يُنادى عليها، فدنوت منها وجعلت أُقلّبها، فقلت لها:ما اسمك؟قالت:مكة.قلت الله أكبر قد قرب الحج، أتأذنين أن أقبل الحجر الأسود.قالت:إليك عني، ألم تسمع الله يقول:{لم تكونوا بالغيه إلاّ بشق الأنفس}النحل:7." والجاحظ الذي تشبعت حياته بعبق الدعابة، وأنفاس المرح، كان يجود بالطرفة في أريحية ووداعة، ويسخر ممن يعرفه ومن لا يعرفه، بسبب وبغير سبب، ثم لا يجد في نفسه مضّاً ولا غضاضة في رواية تلك الأجوبة المفحمة التي أذهلوه بها، يقول الجاحظ -أسبغ الله على قبره شآبيب رحمته-:"كنت مجتازاً ببعض الطرقات، فإذا أنا بامرأتين، وكنت راكباً على حمارة، فضرطت الحمارة، فقالت إحداهما للأخرى: وي. حمارة الشيخ تضرط، فغاظني قولها، فاحتديت، ثم قلت لها: إنه ما حملتني أنثى قط إلا وضرطت. فضربت يدها على كتف الأخرى، وقالت: كانت أم هذا منه تسعة أشهر على جهد جهيد".
وحدث وأن صنف كتاباً من كتبه التي تلقح الفكر، وتشحذ الخاطر، وبوّب ذلك الكتاب، "وبثه في الناس، فأخذه بعض أهل عصره فحذف منه أشياء وجعله أشلاء، فأحضره وقال له: ياهذا إن المصنف كالمصور، وإني قد صورت في تصنيفي صورة كانت لها عينان فعورتهما، أعمى الله عينيك، وكان لها أذنان فصلمتهما، صلم الله أذنيك، وكان لها يدان فقطعتهما، قطع الله يديك. حتى عدّ أعضاء الصورة". ولعل قدرته الفائقة في ترويض القلم في السخرية من كل من سامه بخسف أو تعرض له بهوان، جعلته صاحب عزة قعساء، لا يتهضم جانبه، ولا يُستباح ذماره، فلسانه الذي كان يناوش الدهر، ويصاول الزمان، أخرس الألسنة الهازلة، والأنفس الهازئة، قيل لأبي هفان"لم لا تهجو الجاحظ، وقد ندد بك، وأخذ بمخنقك؟ فقال: أمثلي يخدع عن عقله؟ والله، لو وضع رسالة في أرنبة أنفي، لما أمست إلاّ بالصين شهرة، ولو قلت فيه ألف بيت، لما طن منها بيت في ألف سنة".
لقد كان الجاحظ ينذر من يصاوله بأفدح الخطوب، ولقد برهنت رسالته الموسومة بالتربيع والتدوير، أنه ليس بضعيف المغمز، ولا هش الحشاشة، ففي تلك الرسالة التي تعد نموذجاً صارخاً على شدة عارضته، وتمكنه من أن يجهز على كل من تسول له نفسه أن يغمز قناته، أو يوطأ حماه، نجده في تلك الرسالة التي وضعها في هجاء أحمد بن عبدالوهاب، قد امتشق يراعه الصارم وضمخه في ازدراء خصمه الذي جرده من كل مكرمة، وفضح جهله وادعاؤه لأصناف العلم على قدر جهله بها، "في هذه الرسالة الفريدة التي يتنادر بها أبو عثمان على مهجوّه يطرح عليه قصد تعجيزه ومعاياته مائة مسألة تناولت معظم المعضلات العلمية التي شغلت مجتمع عصره من تاريخ، إلي فلسفة، إلي كيمياء، إلي لاهوت، إلي حيوان، إلي نبات... والمعضلات التي يذكرها الجاحظ في أسئلته المحرجة لا يحلها طبعاً في هذه الرسالة القصيرة، بل يحيل مُناظره، في كل مسألة، إلي كتاب معين من كتبه".

المصادر والمراجع
1- أبوعلي،محمد بركات،سخرية الجاحظ من بخلائه (عمان:جمعية عمال المطابع التعاونية،ط2، 1402هـ/1982م).
2- بوملحم،علي، المناحي الفلسفية عند الجاحظ (بيروت:دار الطليعة للطباعة والنشر،ط2، 1988م).
3- التوحيدي،أبوحيان علي بن محمد،الإمتاع والمؤانسة،تحقيق:محمد حسن محمد إسماعيل (بيروت:دار الكتب العلمية، ط1،1424 هـ/2003م).
4- الجاحظ،أبوعثمان عمرو بن بحر،البخلاء،تحقيق:أحمد العوامري،علي الجارم (بيروت: دار الكتب العلمية،1422 هـ/2001م).
5- الجاحظ،أبي عثمان عمرو بن بحر،البيان والتبيين،تحقيق:فوزي عطوي (بيروت:دار صعب،ط1، 1968م).
6- الجاحظ،أبو عثمان عمرو بن بحر، الحيوان، تحقيق:عبد السلام هارون (القاهرة:مطبعة مصطفى الحلبي، د.ط، 1938م).
7- جبر،جميل،الجاحظ في حياته وأدبه وفكره (بيروت:الشركة العالمية للكتاب،د،ط، د،ت).
8- حسين، عبد الحليم محمد،السخرية في أدب الجاحظ (طرابلس:الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع،ط1، 1397هـ/1988م).
9- خفاجي،محمد عبدالمنعم،أبوعثمان الجاحظ (القاهرة:دار الطباعة المحمدية، د.ط، د.ت).
10- الخضري،محمد،محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية (القاهرة:مطبعة الاستقامة، ط4، 1987).
11- شلحُت،فيكتور،النزعة الكلامية في أسلوب الجاحظ (بيروت:دار المشرق،ط3، 1992م).
12- علي،كرد،عمرو بن بحر الجاحظ (سوسة:دار المعارف التونسية،د.ط، د.ت).
13- عويضة،كامل محمد،الجاحظ الأديب الفيلسوف (بيروت:دار الكتب العلمية،ط1، 1413هـ/1993م).
14-القالي،أبو علي اسماعيل بن القاسم،الأمالي في لغة العرب (بيروت:دار الكتب العلمية،د،ط، 1398هـ/1978م).
15- القزاز،محمد سعد،الفكر التربوي في كتابات الجاحظ (مصر:دار الفكر العربي،ط1، 1415هـ/1995م).
16- مبارك،زكي،النثر الفني في القرن الرابع (بيروت:منشورات المكتبة العصرية،د،ط،د،ت).
17- هدّارة، محمد مصطفى،الشعر العربي في القرن الثاني الهجري (القاهرة:دار المعارف، د.ط، 1978م).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق