الأحد، 8 أبريل 2018

الجاحظ (2)





1-    اسمه وشكله:
هو "أبوعثمان عمرو بن بحر، بن محبوب،الكناني الفُقيمي، لُقّب بالجاحظ أو الحدقي لجحوظ عينيه، أي نتوئهما، وكان هذا اللقب لا يُعجبه، على ما يظهر، فيتبرم بمن يدعوه به، ويجهد نفسه لكي يقرر في أذهان الناس أن اسمه عمرو، وأنه يُحب أن يُدعى بهذا الاسم، وأن اسم ((عمرو)) أرشق الأسماء وأخفها وأظرفها وأسهلها مخرجاً". ونجد أن الجاحظ قد خلع على اسم ((عمرو)) المظلوم لأن الناس قد الصقوا به حرف الواو الذي لا يمت له بصلة أو يصل إليه بسبب وكان يقول عن اسمه الذي يتوق أن ينادوه الناس به:"إنّ هذا الاسم لم يقع في الجاهلية والإسلام إلا على فارس مذكور، أو ملك مشهور، أو سيد مطاع، أو رئيس متبوع، أمثال عمرو بن هاشم (جد النبي صلى الله عليه وسلم) وعمرو بن سعيد الأكبر، وعمرو بن العاص، وعمرو بن معْدِ يكرِب".
ويرى الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي أنّ"الجاحظ ينحدر من أصل عربي صريح خالص، ومن بيت كريم المحتد، عظيم المنزلة في الجاهلية والإسلام". وفند ترهات الشعوبيين التي زعمت أن الجاحظ مدخول النسب، وموصوم الحسب، وليس هو من أعيان الفضل وأقطاب الفخر. وأنه مولى لأن جده فزارة الحالك اللون كان مولى لأبي القلس عمرو بن قلع الكناني الفقيمي، واستندوا في ذلك إلي رواية منحولة، تروى عن يموت بن المزرع البصري (ت 204) ، وهي:"كان فزارة جد الجاحظ أسود اللون، وكان جمالاً لعمرو بن قلع". والرأي الراجح أن أبا عثمان ليس من أقذاء الناس وحُثالتهم، أو أنه إنسان رخيص النبعة، خبيث المنبت، لسواد بشرته كما يزعم الشعوبيين فالسود والبيض يرجعان إلي محتد واحد وتربطهم بأبي البشر أواصر رحم ووشائج قربى، بل كان"عربي الدم والنسب، لأنه كرس جهده وحياته لخدمة العرب والعربية، وتزعّم أكبر حركة قامت في وجه الشعوبية حتى هدمتها أو قضت عليها، فهو رجل يغلي في عروقه الدم العربي الذكي، وتفور في نفسه العزة العربية الصميمة". ولعل الجاحظ الذي هتك بعقله المتقد أسرار النفس البشرية، وسبر بحصاته أغوار الطبيعة لو لم يكن أثيل المنبت في أرومة العرب لنزع منزع الشعوبيين ولزم غرسهم، بل لو لم يكن قد درج من مهد السيادة، وتقلد ذروة الشرف كابر عن كابر، لغمز معاصروه قناته ورموه بالرق وخبث العنصر. والذين أيدوا "عروبة الجاحظ أبو زيد البلخي(ت322هـ)، وابن حزم (ت456هـ)".
كان الجاحظ"قصير القامة، صغير الرأس، دقيق العنق، صغير الأذنين، أسود اللون، جاحظ العينين، مشوه الخلقة، مما جعل الخليفة العباسي المتوكل يصرفه عن تأديب ولده حين رآه وأعطاه عشرة آلاف درهم". كما أجمع كل من أكبّ على دراسة كتب الجاحظ ومحصّها وكشف مزاياها أن الجاحظ كان مفطوراً على خفة الظل وحب الدعابة التي يجود بها في أحلك الظروف والمواطن، ونكات الجاحظ التي تبسم الثغر الحزين، وتشرق الوجه الشاحب، وتبسط المحيا الكئيب، نبعت من قبحه فالمرء"عندما يجد في نفسه عيباً يعمد إلي أحد طريقين:إما التستر على هذا العيب وإخفاؤه عن أعين الناس إذا كان ذلك ممكناً، وإما المبادرة إلي تعرية هذا العيب والهزء به ليسبق الناس إلي السخرية وليقطع عليهم طريقها. وقد آثر الجاحظ الطريق الثاني لأنه يتلائم مع وضعه باعتبار أن عيبه جسمي لا يمكن التستر عليه". وقد تهكم الجاحظ من بشاعة صورته وتندر من قبح خلقته فقال عن نفسه:"ما اخجلني إلا امرأتان:رأيت احداهما في العسكر-مكان في سامرّا وكان مصيفاً للخلفاء العباسين- وكانت طويلة القامة، وكنت على طعام. فاردت أن امازحها، فقلت:انزلي كلي معنا، فقالت:اصعد أنت حتى ترى الدنيا،(معرضة بقصره). وأما الأخرى فإنها أتتني، وأنا على باب داري، فقالت:لي إليك حاجة وأنا اريد أن تمشي معي، فقمت معها إلي أن أتت بي صائغ يهودي، فقالت له :مثلُ هذا ثم انصرفت، فسألت الصائغ عن قولها، فقال:انها أتت إليّ بفصّ وأمرتني أن أنقش عليه صورة شيطان، فقلت:يا سيدتي ما رأيت الشيطان،فأتت بك".
2-مولده ونشأته:
ولد الأديب الأريب الذي كانت لا تعزب عنه مادة في اللغة، ولا قاعدة في النحو،ولا نكتة في البلاغة بمدينة البصرة، ونشأ في كنف الملق، وفناء الفاقة فلقد كان سليل أسرة من غمار الأسر التي اتسمت برقة الحال، وضيق ذات اليد، أحوجتها الخصاصة ، ودعاها الإقتار لأن يبيع فتاهم الغض السمك والخبز بسيحان وهو نهر صغير بالبصرة حتى تجد الأسرة ما يدفع عنهم غائلة الغرث. وتضاربت الآراء حول سنة مولد الجاحظ فقيل"سنة 150هـ، وقيل سنة 159هـ، وقيل سنة 160هـ وإذا صحّ ما يرويه هو عن نفسه يتعين ميلاده أولها، فقد أُثر عنه أنه قال:"أنا أسن من أبي نواس بسنة ولدت في أول سنة 150هـ وولد في آخرها، وإن كانت ولادته على وجه التحقيق، في العقد السادس من القرن الثاني من الهجرة.
أما أبوه:فلا يعرف عنه شئ إلاّ اسمه، وهذا يؤكد أنه لم يكن من عِلّية القوم، ولا من متوسطيهم ويرجح أنه مات قبل أن ينضج ابنه الجاحظ ويذيع صيته، وإلاّ للحقه شيء من شهرته. وأما أمه:فلا يعرف عنها إلاّ أنها كانت فقيرة رقيقة الحال، وكانت تنفق عليه وهو صغير، مما اضطره إلي كسب قوته ومواجهة أعباء الحياة مبكراً فباع الخبز والسمك في صباه". والجاحظ منذ أن كان يميس في معية الصبا وحداثة السن شغوف بالعلم، ولا يتهاون في الأخذ بأسبابه وتكلف بوادره، وذلك بمداعبة أغصان أسفاره الغضة، وأوراق كتبه البضة متى ما سنحت له الفرصة، ولعل خير دليل نسوقه لصحة هذا الزعم دكاكين الوراقين التي كان يكتريها ليلاً ويبيت فيها للنظر ومطالعة ما حوته من درر وفوائد، وتردده على تلك الحلقات العامرة التي كانت تعقد في مساجد البصرة التي تدرس فيها العبر، ويتبلور فيها الفكر، تلك المروج التي تغشاها جحافل الفقراء بغية البعد عن وصمة الجهل واستجلاءً لصور العلم واستنباطاً لمعانيه، كما كان كثيراً "ما يذهب إلي المربد- وهو مكان بظاهر البصرة تفد إليه الأعراب من البوادي للتجارة وتبادل السلع –يتلقي اللغة والفصاحة مشافهة من الأعراب". ووله الجاحظ بالعلم وتدلهه بتعقب رياضه وأفنانه كان يثير امتعاض أم الجاحظ التي كان تشرئب لأن ينصرف ابنها "بكليته إلي التجارة ولا يضيع عليه وقتاً ثميناً في الدراسة، فجاءته يوماً، بطبق كراريس، بدل الغذاء، فقال لها متعجباً:ما هذا؟ قالت:الذي تجيء به، فخرج مغتماً، وجلس في الجامع وموسى ابن عمران جالس، فلما رآه مغتماً، قال له:ما شأنك؟فحدثه الحديث،فادخله المنزل، وقرّب إليه الطعام، وأعطاه خمسين ديناراً، فدخل السوق، واشترى الدقيق وغيره، وحمله الحمالون إلي داره، فأنكرت الأم ذلك، وقالت:من أين لك هذا؟قال:من الكراريس التي قدمتها إليّ".
3-ثقافة الجاحظ وشيوخه:
التحق الجاحظ في حداثة سنة بأحد كتاتيب البصرة حيث أجاد القراءة والكتابة، كما كان يتردد على المساجد ويحرص على حضور مجالس العلم حرص العابد المتحنث على أداء صلواته، و"بدافع الرغبة في العلم، والطموح إلي مستقبل كريم بسببه والتعويض عن اليتم الذي هاض جناحه، أقبل الطفل الصغير بكل قلبه وجوارحه على العلم والدرس والقراءة، موفور الموهبة، تام الملكة، وأخذ يتردد على حلقات العلم في مسجد البصرة الجامع، ويتلقى الفصاحة شفاهاً على العرب في المربد ويستمع من القصاص إلي أحداث الفتوح وسير الغزاة وأطوار الزهاد والناسكين". لم يكد يشتد عوده وتظهر عليه غلواء الشباب حتى بانت عليه دلائل النبوغ وعلامات الفطنة، ولقد تتلمذ الجاحظ على يد أساتذة أجلاء كانوا غرة دهرهم، وآية عصرهم على شاكلة"الأصمعي الذي كان يحفظ ثلث اللغة، وأبو عبيدة معمر بن المثنى الذي لم يكن في الأرض خارجي ولا جمّاعي أعلم بجميع العلوم منه، وأبو زيد الأنصاري الذي قيل عنه وعن سابقيه إن هولاء الثلاثة كانوا-في عصرهم-أئمة الناس في اللغة، والشعر، وعلوم العرب، لم ير قبلهم ولا بعدهم مثلهم، عنهم أخذ جُلُّ ما في أيدي الناس من هذا العلم بل كله. كما تتلمذ الجاحظ على يد الأخفش أبو الحسن سعيد بن مسعد المجاشي الذي كان أعلم الناس بالنحو والصرف، وصالح بن جناح اللخمي الذي أدرك التابعين وكلامه مستفاد في الحكمة، وأبو إسحاق إبراهيم بن سيار البلخي ا المشهور ((بالنظام)) أحد أبرز أئمة المعتزلة والذي الذي نهل منه علوم الكلام، وكان في جملة ما يحفظه الإنجيل والتوراة والزبور وتفسيرها، عدا الشعر والأدب والغريب".
ومن أساتذة الجاحظ أيضاً موسى بن سيار الأسواري الذي قال عنه الجاحظ:"إنه كان من أعاجيب الدنيا، وكانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية وكان يجلس في مجلسه المشهور به، فييقعد العرب عن يمينه، والفرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله، ويفسرها للعرب بالعربية ثمّ يحول وجهه إلي الفرس فيفسرها لهم بالفارسية، فلا يدري بأي لسان هو أبين، واللغتان إذا التقتا في اللسان الواحد أدخلت كل واحدة منهما الضيم على صاحبتها إلا ما ذكروا من لسان موسى بن سيار الاسواري ولم يكن في هذه الأمة بعد أبي موسى الأشعري أقرا في محراب من موسى بن سيار". ولم يقتصر الجاحظ على هؤلاء فقط، بل كان يتردد على "ندوات الشعر ومجالس الأدباء، يأخذ عنهم، ويجالسهم، ويناقشهم في البلاغة والأدب والشعر واللغة وك ضروب المعرفة، تساعده على ذلك موهبته الأصلية، وحافظته القوية، وذكاؤه المتوقد، وأمده طموحه وفقره بالمثابرة والقوة والتحصيل، كما كان للأحداث في عصره، وتطور الحياة والحضارة، ولحركة الترجمة أثر في ثقافته وعقليته". كما كان للجاحظ منبع آخر تلمس فيه طريقه إلي العلم الذي بلغ ذروته حتى هتف باسمه كل أديب، وترنم بحرفه كل فنان، كان الجاحظ راسخ القدم في القراءة، عالي المنزلة في الاطلاع الأمر الذي هيأ له أن يقرأ كل كتاب وقع في يده من أوله إلي آخره، "ومنبع آخر من ثقافته، يستخدمه الجاحظ أحسن استخدام وأدقه وأوسعه، ولا أعلم له في ذلك نظيراً ممن قبله أو عاصره،ذلك أنه انغمس في الحياة الواقعية، واستفاد منها ما أمكنه، وجعل منها موضوعات لأدبه".
4-خصال الجاحظ وأخلاقه:
كان الجاحظ لا يقول إلا عن علم، ولا يفكر إلا على هدى وبصيرة، ولقد تبدى هذا في ما جرى به قلمه الذي يفتقر الأدباء دائماً إليه، ويعتمدون مطلقاً عليه، فلقد انتجع جهابذة الأدب واللغة مؤلفاته كما ينتجع البدو منابت الكلأ ومساقط الغيث، لأن في الإتكاء على جدران تلك المؤلفات تلقيحاً للعقول، وترويحاً للقلب، وتسريحاً للهم، وتنقيحاً للأدب. ولعل مؤلفات الجاحظ وآثاره تكشف عن جلاء عقله المتقد الذي جاءت كتاباته شاهدة عليه فلقد كان الجاحظ حاد الذهن، مُلتهِبُ الذكاء، كما كان قوي الحافظة، صلد الذاكرة، مُفحم الحجة، ساطعة البرهان،كما أن من يقترب من مؤلفات الجاحظ أو يسبر غورها يرى تلك النزعة الفطرية"إلي التهكم والضحك فقد ساعدته هذه النزعة على التغلب على مصاعب كثيرة اعترضته في الحياة. فهو ما كان ينظر إلي هذه الحياة من زاوية سوداء فيرى العبوس سائداً فيها فيجنح إلي التشاؤم بالعيش والتبرم بالناس. بل على العكس كان ينظر إليها من زاوية وضاءة تشيع التفاؤل حولها فيقدم على عمله والأمل ملء صدره بالنجاح".
كان الجاحظ ضنينا بوقته لا يهدره سدى، ولا يبدده إلا فيما يدر دخله عليه، بعيداً كل البعد عن الفوضى، ويحب النظام في الجملة، كما كان محمود الشمائل، أريحيُّ الطباع لعترته وخلانه، وقد تأخذه أريحية الكرم فيعطي عن سخاء المال الذي ادخره لأيام الشدة والعنت حتى تعوزه النفقة، ويلوب على الناض يرتفق به، كما كان يربأ بنفسه عن مواطن الذل، ويتجافى بها عن مطارح الهوان، و"ما كان الجاحظ بالمتزمت ولا بالمتنسك، قام بما فرض الإسلام عليه من الفروض والواجبات، وصرف ساعات عمره فيما يرفع من شأن المسلمين، دعاهم إلي الحياة الفاضلة، وحبب إليهم دينهم ودنياهم، ليستقيموا أمة عزيزة فضلة في أخلاقها. وكان يرى سعادة أصحاب السلطان وأصحاب الثروة تزول بزوال أربابها، أو بما يعرض لها من أسباب الفناء، وأن العمل الصالح هو الأثر الذي يظل على الأيام، ولذلك كان يتقن عمله، ولا يتوخى منه إلا ما يجدي في الحياة والميعاد".
ومن خصال الجاحظ أيضاً العصامية التي أهلته لنيل تلك المنزلة الرفيعة من نباهة الذكر، وشيوع الصيت، منزلة جعلت الشريف والوضيع يتمنى أن يجلس إليه، أو أن يأخذ عنه، أو ينتسب إليه، فالجاحظ منذ أن كان فتاً غضاً لم يعتمد إلا على نفسه، ولم يكل أمره إلي غيره، الأمر الذي قاده إلي بغض الوساطة وكراهية المحاباة، وتناوله بالعيب والزراية كل من يجشمه العناء في الخوض في أمر يجعله يميد من الغضب ويتفجر من الغيظ، يقول الجاحظ:"سألني بعضُهم كتاباً بالوصية إلي بعض أصحابي، فكتبت له رقعة وختمتها، فلمّا خرج الرجل من عندي فضها، فإذا فيها(كتابي إليك مع من لا أعرفه ولا أوجب حقه، فإن قضيت حاجته لم أحمدك، وإن رددته لم أذمك".
لقد كان الجاحظ رغم الشهرة والمجد متجاف عن مقاعد الكبر، وناء بنفسه عن مذاهب الكبر،و"تراه وهو العربي القح في جميع منازعه، لم تستهوه حكمة اليونان والهند وفارس، وما امتلكت قلبه غير حكمة العرب، وهدايتهم وأدبهم، ومع هذا يأخذ ممن سبق ولحق، وعمن وافق وخالف؛ لا ينبو نظره عن شيء، ولا تُرذل نفسه حقيراً. ولم تورثه شهرته العلمية زهواً وغروراً، ولا يتكلف التواضع ولا التخاشع، وبغيته الكبرى أن يرفق بالضعاف حتى يقووا، وبالجهلاء حتى يتعلموا؛ يُحاسن الكبراء من دون إسفاف، ويتجنب مخاشنتهم تفادياً من شرهم وعتوهم، ويحلم عن الأشرار طبعاً وتطبعاً".

5-مرضه ووفاته:
عاش الجاحظ ما يربو على التسعين عاماً، قضاها في التحصيل وتأليف تلك الجياد المطهمة العتاق التي تزدان بها المكتبات وحوايا العلم، تلك الدررالتي يتهالك على جمعها طلاب النفائس، ويتنافس في اقتنائها مهووسي المعرفة، ومما يند عن ذهن ويغيب عن خاطر أنّ حياة الجاحظ لم تقتصر على الفقر المدقع، والطعام الوخيم، والفراش النابي، بل تغيرت في نمط العيش ورونق المظهر، فلقد كفل العلم للجاحظ أن ينتقل من التراب إلي السحاب، ويغادر الفقر والفاقة التي نشأ في مهدها الخشن، ودرج في فنائها الضيق، وعاش في مرعاها الجديب، وأمسى جليساً للخلفاء الذين يجتمع على سماطهم علية القوم ووجهاء الدولة، وظل الجاحظ يتنقل بين بسط المروج وأفنان الخمائل، يتسابق الملوك إلي وده، ويتنافس الوزراء في رضاه، حتى داهمه المرض، واستفحل حتى استيأس منه الطبيب، فقد أصيب أبو عثمان الجاحظ "بالفالج، فاعتزل الناس، إلا أقلّهم، وبرم بحظه. وفي تلك السنين العصيبة، التي قضاها في البصرة، كان القلم رفيقه الدائم يستعينه على مُصابه وعلى جحود خلانه. وقد تحدث عن عجزه المضني في توطئة كتابه ((الحيوان))، معتذراً عن اضطراب بعض فصوله فقال:"وقد صادف هذا الكتاب مني حالات تمنع من بلوغ الإرادة فيه، أولى ذلك العلة الشديدة، والثانية قلة الأعوان، والثالثة طول الكتاب". ويروى أن أبو معاذ عبدان الخولي الطبيب قد دخل يوماً (بسر من رأى) على عمرو بن بحر الجاحظ يعوده وقد فلج، فلما أخذ مجلسه أتى رسول المتوكل ينشد الجاحظ فقال:"وما يصنع أمير المؤمنين بشق مائل ولعاب سائل، ثم أقبل علينا فقال>ك ما تقولون في رجل له شقان أحدهما لو غرز بالمسال ما أحس والشق الآخر يمر به الذباب فيغوث وأكثر ما أشكوه الثمانون، ثم أنشدنا أبياتاً من قصيدة عوف بن محلم الخزاعي". التي مطلعها:
يا ابن الذي دان له المشرقان طـرا وقد دان له المغربــان
إن الثمانين وبــلغتهـا وقد أحوجت سمعي إلي ترجمان
كما حدث يموت بن المزرع الذي يمت للجاحظ بقرابة بأن المتوكل قد وجه في السنة التي قتل فيها أن يحمل إليه الجاحظ من البصرة فقال لمن أراد حمله:وما يصنع أمير المؤمنين بامرئ ليس بطائل، ذي شق مائل، ولعاب سائل، وفرج بائل، وعقل حائل؟ وحدث المبرد تلميذ الجاحظ بأنه قد دخل على الجاحظ في آخر أيامه فقلت له:كيف أنت؟ فقال:كيف يكون من نصفه مفلوج لو حز بالمناشير ما شعر به، ونصفه الآخر منقرس، لو طار الذباب بقربه لآلمه، وأشد من ذلك ستة وتسعون أنا فيها، ثم أنشدنا
أترجو أن تكون وأنت شيخ كما قد كنت أيام الشباب؟
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب دريس كالجديد من الثياب
وقال لمتطبب يشكو إليه علته:اصطلحت الأضداد على جسدي، إن أكلت بارداً أخذ برجلي، وإن أكلت حاراً أخذ برأسي". وظل الجاحظ يتحامل على نفسه ويغالب المرض ويفر من جحيمه وويلاته بزمهرير الكتابة التي لم ينقطع عنها طوال مدة وصبه وشكاته، الأمر الذي يدل "على أنه كان على جانب عظيم من قوة البنية، وشدة الأسر، ومتانة الأعصاب، وحضور الذهن، وقوة العقل". وقضى الجاحظ نحبه في يوم من أيام شهر محرم سنة 255هـ حينما زحف وحيداً إلي مكتبته المكتظة بالكتب المكدسة فانهالت مجلداتها الضخمة عليه، و"كان من عادته أن يضعها قائمة، كالحائط محيطة به وهو جالس إليها".
وشيعت البصرة التي استسلمت للعبرة، واسترسلت في البكاء، جثمان الجاحظ الذي أضمرته أرضها، وبقى ذكره الذي يجري على كل لسان، وأدبه الذي يأسر كل نفس.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق