الأحد، 8 أبريل 2018

الجاحظ (1)




بيئة الجاحظ العامة
العصر الذي عاش فيه الجاحظ عصر استقرار وازدهار في جميع المرافق والأصعدة، عصر توطدت فيه أركان الدولة العباسية التي قيض الله لها رجال أشداء على شاكلة الرشيد وابنيه المأمون والمعتصم الذين كانت لهم جلالة تغشى العيون، وقداسة تملأ الصدور، ذلك النفر الذي كان يصل كلال ليله بكلال نهاره تدبيراً لشؤون دولته، وتوسيعاً لحدود مملكته، و"لم يكدر صفاء تلك الحقبة غير الحرب التي نشبت بين الأمين والمأمون، للنزاع على ولاية العهد، فسالت الدماء في خراسان والعراق، وأنفق الأمين الأموال، حتى إذا استقل أخوه المأمون بالخلافة، عادت الأمور إلي مجراها الأول في عهد الرشيد وأبيه المهدي وأخيه الهادي.ثم اختلت الدولة بعد عهد الواثق، فقتل المتوكل والمستعين والمعتز من خلفائهم".
1-الحياة السياسية في عصر الجاحظ:
كان ميلاد الأديب الأريب، والكاتب الملهم صاحب الأحاديث المنقولة، والبلاغات المأثورة، في خلافة المهدي، وطوته الغبراء في خلافة المعتز، وهذا يعني أنه عاصر مصابيح الدجى وأعلام الهدى، وفرسان الطراد، ملوك الدولة العباسية التي دانت لهم الأرض، وخضعت لهيبتهم الرقاب، الهادي والرشيد، والمأمون والمعتصم، والواثق والمتوكل."وتعد الفترة التي عاشها الجاحظ ظاهرة حضارية، وقوة سياسية، ونمواً اجتماعياً، وثقافياً، مختلف النزعات والميول والاتجاهات والرغبات، وذلك بسبب انتصار دولة بني العباس على أيدي الموالي الذين انبعثت أمالهم لتحقيق ما يريدون، اعتقاداً منهم أن دولة بني العباس قامت على كواهلهم، مما هيأ لهم الافتخار بجنسهم العجمي، وظهور الشعوبية التي تمجد الفرس، وتعليهم على العرب أهل الصحراء". ولعل ما لا يند عن ذهن أو يغيب عن خاطر أن الفرس هم الذين وطدوا دعائم الملك لبني العباس فهم الذين وضعوا أساليب الحرب ونظم الحكم وهم من كانوا ينذرون من يناوش بنو العباس بأفدح الخطوب، الأمر الذي جعل المؤرخون يذهبوا إلي حقيقة مفادها أن دولة بني أمية كانت عربية في مادتها وتكوينها، بينما كانت دولة أحفاد حبر الأمة رضي الله عنه أعجمية خراسانية. في هذه البيئة، عاش الجاحظ العصر الذهبي بين بسط المروج وأفنان الخمائل، العصر العباسي الأول{بدءاً من 132هـ} حيث كانت السلطة بيد الملك الذي دلائل الفضل عليه لائحة، وأمارات الحزم عليه شاهدة.
تعاقب على الدولة العباسية ملوك أشداء استطاعوا أن يبسطوا هيبتهم في كل صقع وواد من مملكتهم المترامية الأطراف، ملوك جعلوا أعدائهم يكابدون غصص الحرمان، فالخليفة المهدي الذي اتسم عهده بالنعيم والاستقرار، نجده في أول ولايته قد "أمر بإطلاق من كان في سجن المنصور،إلا من كان قبله تباعة من دم أو قتل، ومن كان معروفاً بالسعي في الأرض بالفساد، أو كان لأحد قبله مظلمة أو حق، فالذين أطلقهم هم من كان جرمهم سياسياً". كما نجده قد اهتم بالعمران وبناء القصور في طريق مكة، كما تفانى وأفرغ وسعه وجهده في رعاية المجذومين والمحتاجين. وبعد وفاته آلت السلطة إلي الهادي الخليفة الذي عاش الناس في عهده في حال جميلة وذخيرة جليلة، ومضت الدولة إبان حكمه في رخا ويسر. أما في عهد هارون الرشيد العهد الذي انفجرت فيه الحكمة من كل جانب، والعلم من كل ناحية، تلك الفترة التي قادها رجل هذبته الآداب وأحكمته التجارب، والذي بلغت الدولة العباسية شأوا عظيماً من الرقي والتقدم وتفتقت الأذهان إلي ألوان من الفكر والبيان، الخليفة هارون الرشيد الذي كان يجتمع على سماطه جمع غفير ممن رسخت أقدامهم في الدين والعلوم والأدب، يحييهم في أدب، ويناقشهم في وداعة.
ثم تسلم الحكم بعده"الأمين ثم المأمون، وكان عصرهم عصر قضاء على الثورات الداخلية والخارجية. ثم يأتي من بعدهم المعتصم الذي نشبت في عهده الثورات التي أشعلها بابك الخرمي ومازيار والافشين وغيرهم.فأقضّ مضجع الروم في غزواته المتكررة على الثغور، وتمثل في شخص المعتصم المجتمع العربي المثالي، في معنى النخوة، والحفاظ على الشرف العربي". والحقيقة التي ينبغي علىّ بسطها في هذا المقام أن هؤلاء الملوك الشجعان الذين استقر الأمر في عهدهم، واتسق الحكم، واستبان الطريق، أتي عقبهم ملوك اتسموا بضعف المغمز وهشاشة الحشاشة، فلقد كان عصر "المتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز يتصف بضعف الخلافة، وضياع هيبة الخلفاء، وفساد شئون الدولة؛ وذلك بسبب نفوذ الأتراك، الذين بلغ عددهم مبلغاً كبيراً في ظلال حكمهم".
لقد كان الطابع الفارسي واضحاً جلياً في العصر العباسي الأول، واقتبس الخلفاء العباسيون الكثير من نظم الفرس الحكومية الذين كانوا أصحاب مجد مؤثل وماضى تليد في السياسة وتصريف شؤون الحكم، الأمر الذي هيأ لهم أن تكون لهم الكلمة النافذة، والرأي القاطع في الخلافة العباسية، وربما طمح بهم رجاؤهم إلي الغاية التي لم يخضر لهم فيها مرعى، أو يورق لهم فيها غصن، مما دفع الخلفاء لاجتثاث شأفتهم، واستباحت حوزتهم، وخير شاهد على صحة زعمنا نكبة البرامكة التي خلدتها أسفار التاريخ، فلقد أفناهم الرشيد من ظهر البسيطة بعد أن تحلبت أشداقهم لاعتلاء العرش، ومثل صنيع المأمون بوزيره الفضل بن سهل، وقبله فعل أبو جعفر المنصور بالخراساني أبو مسلم الذي تفاقم شره، واستطار آذاه بعد أن كان فارسهم الذي لا يشق له غبار، أبو مسلم الخراساني صاحب الساعد المجدول، والعضد المفتول الذي مهّدَ لقافلة بنو العباس من بعد الله سبحانه وتعالى أن تسير غير ظلعاء ولا وانية، أبو مسلم الذي تعاورته ألسنتهم بالمدح والثناء، وحوته أفئدتهم بالإكبار والحب أقدم أبو جعفر المنصور على قتله في رابعة النهار بعد أن أثار حفيظته وجعل الغضب يتنزا في صدره لتماديه وتعديه الصارخ على أصل الدولة، ومعقل الحكم، الخليفة الذي جرت العقائد المغروسة، والتقاليد الموروثة على طاعته والانصياع لأوامره".واستمر تدخل الفرس في شئون البلاد، حتى اعتلى سدة الحكم الخليفة المعتصم الذي كان أول الخلفاء العباسيين الذين مكنوا يد الأتراك أن تنطلق في حواشي الدولة، ولعل السبب في ركون المعتصم للأتراك واطمئنانه إليهم أن والدته((ماردة)) كانت تركية من السغد، لأجل ذلك صاروا موضع ثقته المفرطة وإيثاره، وسار الخلفاء الذين أتوا من بعده على نهجه واستنوا بسنته في تقريب الأتراك، الأمر الذي قاد إلي الكثير من البلبلة والاضطراب في ثنايا الحكم، فلقد أضحى الأتراك قوة ضاربة ومسيطرة يعجز الخليفة العباسي الانفلات من قبضتها، ومن سعى لذلك كان مصيره الموت كالمتوكل ووزيره الفتح بن خاقان في أواخر 247هـ، وازدادت وتيرة تدخلهم في أمور الخلافة في عهد المنتصر والمستعين والمعتز، الذي مات الجاحظ في آخر خلافته عام 255هـ".
2-الحياة الاجتماعية في عصر الجاحظ:
لم يكن العصر العباسي عصراً غطته أغشية الضلالة، وهام معاصرية في أودية الجهالة، كما ادعت بعض الأقلام التي لم يوهن لها عزم، ولا لانت لها قناة، في بث تلك اللوحات القاتمة عن تلك الحقبة التي تعد من أهم الحقب التي تهالك فيها المسلمون على العلم، وتنافسوا في جمعه وادخاره، ولا يعدم المرء منا حجة للاعتقاد بأنه ادعاء يشوبه الخطأ والاعتساف، ويعوزه تحرير الحجة، وتصحيح الدليل، فشيوع الترف والمجون، والتفنن في الملبس والمأكل، وتعظيم المسكرات ومعاقرتها، والتشبب بالقيان والغلمان، كان قاصرا على الطبقات المترفة، وحكرا على من سحّت عليهم هواطل النعم، ودرت عليهم روافد الرّهم، هذا التفسخ والانحلال كان يقابله جباه تعفر في التراب، ومساجد تكتظ بالعُباد، فعرى الدين لم ينفصم ارتباطها بالأرض في ذلك العهد، بل كانت دوحته فينانة الأفرع، ريا الأماليد، والشاهد على ذلك قول الجاحظ نفسه، الأديب الذي عايش تلك الفترة، نجده يقول في كتابه غزير المادة ((الحيوان)) الذي وصف فيه مساجد بغداد بأنها :"عامرة بالعبادة والنساك وأهل التقوى والصلاح، وكان في كل ركن منها حلقة لواعظ يذكر بالله واليوم الآخر، وما ينتظر الصالحين من النعيم المقيم، والعاصين من العذاب الأليم".
نعم لقد أفرط بعض أهل اليسار والثراء الذين لا يبسطون ألسنتهم بمعروف، ولا أيديهم بمعونة، أهل الغني والرياش من اتسمت حياتهم بالبذخ واللهو والمجون والإمعان في اللذائذ والتكالب عليها، والتفنن في اصطيادها ، وافراغ الوسع لها ، كلما عنّت لهم الفرص ، وسنحت لهم السوانح و"ساعدت الحرية المسرفة العباسيين في أن يرثوا كل ما كان في المجتمع الساساني الفارسي من أدوات لهو ومجون، حتى اكتظت حانات ((الكرخ)) ودور النخاسة بالجواري والإماء، والقيان والمغنين". إلا أن مثل هذه الشواهد لا تكفي لكي ندمغ العصر العباسي بأسره بقبح الأحدوثة وبأنه عصر تجرد من كل فضيلة، وانغمس في كل فضيحة، حتى طارت له تلك الهيعة المنكرة التي لا يمحوها كرور الأيام، ولا يزيلها تعاقب الحدثان. فقد أدت تلك الحياة البهيمية التي يعيشها من كثرت أموالهم، وحسُنت أحوالهم، وتضاعف يسارهم، حياة التسرّي واللهو والترف "إلي زيادة استياء النفوس العالية مما يحدث، مما أدى بدوره إلي ثورتهم على الفساد الشائع، وإلي الزهد في الفانيات، فظهرت فرق دينية، ومذاهب متباينة، أشهرها جميعاً مدرسة المعتزلة الكلامية". التي كان يشايعها الجاحظ و يتعصب لها، ويدعو إليها، وشق طريقه فيها بالعمل الدائب، والدرس المتصل، حتى صار من أقطابها الذين تشرئب لمقدمهم الأعناق، وتشخص لطلعتهم الأبصار، "وكانت المعتزلة طليعة المدارس الكلامية التي قامت لحل ما كان يشغل المسلمين من المشاكل الحيوية، مثل مشكلة حرية الإرادة ومشكلة مرتكبي الكبائر.وقد عُني رجال هذه المدرسة بدرس الفلسفة، للاستعانة بها في الدفاع عن العقيدة. ثم أخذوا تدريجياً يحاولون التوفيق بين العلوم النقلية والعلوم العقلية. وعندما توغّلوا في الفلسفة وتعمقوا في مسائلها، أحبوها لذاتها فعظّموا شأنها حتى صاروا يُخضعون النقل للعقل ويؤولون معتقداتهم الدينية ليوفقوا بينها وبين الفلسفة". والجاحظ حينما انتسب لهذه المدرسة التي ساءت ظنون الناس فيها، وأرهفت الألسن عليها لاغراقها في الفلسفة، والتي ملكت أرباب الخلفاء، وأثارت إعجاب الوزراء، حتى غدت مذهب الدولة الرسمي في عهد المأمون والمعتصم والواثق، وقوض أركانها المتوكل في خلافته،"أخذ الجاحظ بمبادئ الاعتزال الخمسة الأساسية منها، وهي العدل والتوحيد والمنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولكنه افترق عن سائر المعتزلة بآراء خاصة انفرد بها، فعد على أساسها صاحب فرقة مميزة عن فرق الاعتزال دعيت الجاحظية".
إنّ الدولة العباسية ضمت في معييتها العديد من الشعوب التي تنحدر من جنسيات شتي وأعراق متباينة لا يجمعها منبت سوي الإسلام، فلقد حوت مسلمون"متعددي الفرق، ونصارى مختلفي النزعات، ويهود وصابئة، وزرادشتين، ومانويين، ومزدكيين متبايني المذاهب". هذا الخليط من الشعوب المتناحرة التي انخرطت في كينونة الدولة العباسية تركت آثاراً سالبة على المجتمع العربي الذي كان راسخ القدم في الدين، عالي المنزلة في الأخلاق، ذلك المجتمع الذي عُرِف بمحاسن الخلال، وأُشتُهِرَ بمكارم الفِعال، تحررت بعض شرائحه من سلطان العقيدة، وانكبت على الشهوات، ولزمت غرس أقوام لا تقع إلا على منكر، ولا تتقلب إلا على معصية.
ونحن إذا نظرنا إلي تركيبة المجتمع العباسي نظرة خاطفة، لوجدناه يتكون من ثلاث طبقات أعلاها ينبتون الصخور قصورا، وأدناها تضطرب في دور يخالها المرء قبورا لضيقها وافتقارها لغضارة العيش، ولين الجانب، أعلى هذه الطبقات هي طبقة الخلفاء السادة، والملوك القادة، الذين لم تكل لهم ذراع، أو يمزق لهم شراع، وعلى شاكلتهم الوزراء، والولاة، والقواد، أقطاب الدولة وأعيانها، والثانية عمادها الصناع البارعون لصنعتهم، والعلماء المتبحرون في شرعتهم، والشعراء المتمكنون من لغتهم، ورجال الجيش الذين يفنون من مس حرمتهم، والمغنون الذين لا يستثقل الخاصة عشرتهم، والطبقة الثالثة هي الطبقة المسحوقة التي ولدت في مهاد الفقر والعدم، وترعرعت في كنف البؤس والحرمان، طبقة تعاني من نوائب الفاقة، وغوائل الغرث والجوع، تتحيفها المكاره، وتترصدها العيون، طبقة لا تجد ما يسد الرمق ويقيم الأود إلا باستخذاء من يعانون داء القدرة والتملك، وتبديد العمر في لذة الانتقاء وفرحة الاقتناء، طبقة يقع عليها عبء الحرث في الحقول، وخدمة أرباب القصور، بينما "كان الخلفاء والوزراء يعيشون في بذخ، إلي درجة أن يتلف الخليفة المقتدر الخليفة التاسع من خلفاء العصر العباسي الثاني((295-320هـ)) ويبدد ثمانين مليوناً من الدنانير، كان قد خلفها أبوه المعتضد". بينما تكتفي تلك الأسر التي ترى فيها وضاعة الشأن، وضراعة الجانب، بدرهم يدفع عنهم بناب، ويصاول عنهم بمخلب، علل الملق والفاقة.
ومعاناة الخصاصة، ونكد العيش، وقصور وسائل الكسب من أن تفي بمتطلبات الحياة، أجبر العديد من الناس من أن يستدر الأكف بالسؤال، أو يفض الجيوب بالسرقة، ولقد استرعت ظاهرة التسول وكثرة المتسولين في نواحي بغداد "نظر رسول ملك الروم إلي المنصور، فقال لعمارة بن حمزة وكان يرافقه من قبل المنصور في تطوافه ببغداد:إني أرى عندكم قوماً يسألون الناس، وقد كان يجب على صاحبك أن يرحم هؤلاء ويكفيهم مؤنهم وعيالهم، فاعتل له عمارة بوجه، واعتل له المنصور بوجه".
ولم يكن الجاحظ الذي يفزع إلي القلم والقرطاس كما يفزع من اشتد جوعه وطال غرثه إلي الطعام الشهي لائذا بأذيال الصمت عن صرعى الفاقة، وأنضاء المرض، فكتب عن ضخام الجلاميد الذين لا تأخذهم رأفة، أو تدركهم شفقة لتلك الأفواه الجائعة التي مستها البأساء والضراء، فلقد اختلط الجاحظ "بكل طبقات المجتمع العباسي بجميع فئاته على تباين أنواعها، وأحسّ بها جميعاً، وكتب عنها، حتى جاءت كُتبه مرآة صادقة لعصره، بل إنها تُعَدُّ أغزر مصدر لدراسة الحياة الاجتماعية في عصره".


3-الحياة الثقافية في عصر الجاحظ:
كان عصر الجاحظ عصراً عضّ على قارحة من الكمال في العلوم والأدب، فلقد تهيأت له من الأسباب والوسائل ما لم تتوفر لعصر قبله، لأجل ذلك لم يبرأ من ترهات الأراجيف، عصر أوغل فلاسفته ومفكريه في دراسة شتي العلوم قديمها وحديثها كل الإيغال حتى تعمقوا في أغوار الفكر والشعور وبقى صدى صوتهم الدافئ يرن في أعطاف الأزمان، عصر ازدهرت فيه الحياة العقلية و"تلاقت في حواضره الإسلامية شتى الثقافات التي تمثل حضارات الأمم العريقة في العلم والثقافة؛ وأخذ خلفائه الذين خضعت لهم الرقاب يشجعون الحركة العلمية في شتى جوانبها، ويضفون عليها ظلال رعايتهم وتشجيعهم، كما كانوا يبالغون في إكرام الأدباء والعلماء ويجالسونهم ويقربونهم إليهم، وصار العلم والأدب وسيلة إلي المناصب العالية، والنفوذ والجاه؛ وكان كل من نبغ في العلم، أو شهر بالأدب ترفع منزلته، ويتنافس العظماء في تكريمه، كما يتنافسون في إنشاء دور العلم، وترجمة الكتب إلي العربية من مختلف اللغات".
عصر صقله العلم، وشمله التمدن، ولم يترك بيتا نادراً، ولا نسيباً سائراً، ولا شعراً فاخراً إلا حواه ودونه، عصر حفل بالأذهان الخصبة، والقرائح الموهوبة التي أيقظت رواقد العبقرية، وفجرت ينبوع الإبداع الذي ما زال يلهمنا ويسقينا، عصر أيقن فيه أرباب البصائر"أن الدنيا لا تأتي من غير طريق الكفاية، وأن كل عزّ لم يؤكد بعلم فإلي ذل يؤول فاكّبوا على التأدب، وحرص أرباب اليسار على تثقيف أبنائهم، وكان إذا تفرس رب البيت في ولده ذكاء جاءه بالمؤدبين يلقنونه ما تشتهي نفسه من الآداب، ولذا أصبح التعليم صناعة، وحسن عيش المؤدبين؛ وغدا التأديب –كما أسلفت من قبل-طريقاً إلي المجد والسؤدد".
في ذلك العصر الذي اشتدت فيه قبضة العرب على مقاليد الحضارة وسلكوا فيه سلوك الأمم المتمدنة في التدوين"حين انبثوا بفضل الإسلام في الممالك التي فتحوها واكتسبوا بالمعاشرة والمصاهرة روحاً جديداً ظهر أثره في الخطب والرسائل والمحاورات حتى ليمكن أن يقال:إن الفتح والملك أعطاهم من قوة الملاحظة ودقة التفكير ما لم يعطهم القرآن وحده لو ظلوا محصورين في أرجاء الجزيرة العربية". ولعلني لا أجنح بعيدا عن شط الحقيقة إذا زعمت أن العصر العباسي برمته كان عصر ترجمة وثقافة وذلك لانصهار كل تلك الحضارات والثقافات المتعددة في بوتقة واحدة تواكب الرقي وتساير التطور، بوتقة امتزجت فيها خلاصة الحضارات العريقة، ولعل من مزايا هذا الاحتكاك والتمازج بين العرب وغيرهم من الشعوب المسلمة والثقافات الأجنبية الوافدة أنه أثرى الأدب والعقل في"عصر الجاحظ بما تُرجِمَ من فلسفة اليونان ومنطقهم، فقد صبغا عقلية الأدباء والشعراء بآثارهما العميقة في التفكير والمعاني، وطرافة التقسيم والخيال، كما أثرى كذلك بالمترجم إلي العربية من قصص الهند وأدب الفرس". والحقيقة التي يجب علىّ بسطها في هذا المقام أن العرب لم يكونوا متلقيين فقط لهذا الكم الهائل من العلوم دون أن يضفوا عليه شيئاً من سمتهم الرزين ويضيفوا عليه قبساً من قريحتهم الجياشة، و"إنما كانوا إيجابيين في تعاملهم معها، ومن ثم صبغُوها بالصبغة الإسلامية، وأخضعوها لأيديولوجية الإسلام، حتى صارت هذه العلوم في نهاية المطاف علوماً إسلامية".





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق