الثلاثاء، 3 ديسمبر 2019

رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد (1)

مقدمة

حظي النثر في العصر الأندلسي بمكانة مميزة ربما تفوّق فيها على الشعر ؛ حيث تنوعت فروعه وانضمت إليه القصة والتي تناولت الكثير من الأحداث والأبطال . وفي هذا قدّم ابن شهيد ( رسالة التوابع والزوابع ) ؛ وهي رسالة أدبية نقدية أتت شكلاً جديدا للنثر.

 وقد اختار ابن شهيد اسم التوابع والزوابع لكتابه دالاًّ على المحتوى ؛ فالتوابع جمع تابع وهو الجني الذي يتبع الإنسان ويحبه ويرافقه ، أما الزوابع فهي جمع زوبعة وهي شيطان مارد أو رئيس من الجن.

وتعد رسالة التوابع والزوابع من أشهر مؤلفات ابن شهيد وأهمها ، وذلك لضمها آراءَه الأدبية والنقدية ، واصطباغها بالطابع القصصي ، وبها كثير من الخيال ، فتدخل ضمن نوادر

وفي التوابع والزوابع تخيّل المؤلف أنه قام برحلة إلى عالم الجن ، وهناك التقى بشياطين الشعراء والكتاب ، ووقعت بينهم مناظرات أدبية تفوّق فيها ابن شهيد على الجميع ، وأرضى غروره وذلك في إطار قصصي ، وفي رسالته التقى ابن شهيد بتوابع عدد من الشعراء والأدباء منهم امرئ القيس ، وطرفة بن العبد ، وقيس بن الخطيم ، وأبو تمام ، والبحتري ، وأبو نواس، والمتنبي ، والجاحظ ، وغيرهم . 

ورسالة ابن الشهيد : عبارة عن مدخل وأربع فصول :

فصل في توابع الشعراء ، وفصل في توابع الكتاب ، وفصل في نقاد الجن ، وفصل في حيوان الجن.

 

 

الفصل الأول : توابع الشعراء

 

شيطان امرئ القيس

 

تذاكرتُ يوماً مع زُهير بن نُميرٍ أخبار الخُطباء و الشعُّراء، وما كان يألفُهُم من توابع والزوابع، وقلتُ: هل حيلةٌ في لقاء من اتفق منهم؟ قال: حتى أستأذن شيخنا. وطار عني ثم انصرف كلمحٍ بالبَصَر، وقد أُذن له، فقال: حُلَّ على متن الجَوادِ. فصرنا عليه؛ وسار بنا كالطائر يجتابُ الجوَّ فالجوَّ، ويقطعُ الدَّوَّ فالدَّوَّ، حتى التمحتُ أرضاً لا كأرضنا، وشارفتُ جواً لا كجوّنا، متفرع الشجر، عطر الزَّهر؛ فقال لي: حللتَ أرض الجن أبا عامر، فبمن تُريدُ أن نبدأ؟ قلتُ: الخطباء أولى بالتقديم، لكني إلى الشعراء أشواق. قال: فمن تُريدُ منهم؟ قلت: صاحب امرئ القيس. فأما العنان إلى وادٍ من الأدوية ذي دَوحٍ تتكسرُ أشجارُه، وتترنمُ أطياره، فصاح: يا عُتيبةُ بن نوفل، بسقط اللّوى فحومل، ويمِ دارةِ جُلجُل، إلاَّ ما عرضتَ علينا وجهك، وأنشدتنا من شعرك، وسمعت من الإنسي، وعرَّفتنا كيف إجازتُك له! فظهر لنا فارسٌ على فرسٍ شقراء كأنها تلتهب، فقال: حياك الله يا زُهير، وحيّا صاحبك أهذا فتاهُم؟ قلتُ: هو هذا، وأيُّ جمرةٍ يا عتُيبة! فقال لي: أنشد؛ فقلتُ: السيدُ أولى بالإنشاد. فتطامح طرفُه، واهتزَّ عطفه، وقبض عنانَ الشقراء وضربها بالسّوط، فسمت تُحضر طُولاً عنّا، وكرَّ فاستقبلنا بالصَّعدةِ هازاً لها، ثم ركزها وجعل ينشد :
سما لك شوقٌ بعدما كان أقصرا
حتى أكمَلها ثم قال: لي: أنشِد؛ فهمتُ بالحيصة، ثم اشتدَّت قُوى نفسي وأنشدت:
شَجَتْهُ مَعانٍ من سُليمى وأدْؤرُ
حتى انتهيتُ فيها إلى قول :
من قبة لايدرك الطرف رأسها **** تزل بها ريح الصبا فتحدر
فلما انتهيتُ تبسمَّ وقال: لنعمَ ما تخلّصتَ! اذهب فقد أجزته


شيطان طرفة .
فقال لي زُهير: من تُريدُ بعدُ؟ قلتُ: صاحب طرفة. فجزعنا وادي عُتيبة، وركضنا حتى انتهينا إلى غيضةٍ شجرُها شجران: سامٌ يفوحُ بهاراً، وشحرٌ يعبق هندياً وعاراً. فرأينا عيناً معينةً تسيل، ويدُورُ ماءها فلكياً ولا يحُل. فصاح به زهير: يا عنترُ بن العجلان، حلَّ بك زهيرٌ وصاحبه، فبخَولة، وما قطعت معها من ليلة، إلاَّ ما عرضت وجهك لنا! فبدا إلينا راكبٌ جميلُ الوجه، قد توشح السّيف، واشتمل عليه كساء خزّ، وبيده خطّيّ، فقال: مرحباً بكُما! واستنشدني فقلتُ: الزعيمُ أولى بالإنشاد؛ فأنشد:
لِسُعدى بِحِزَّانِ الشُّريف طُلُول
حتى أكملها، فأنشدته من قصيدة
أمِن رسمِ دارٍ بالعقيقِ مُحِيلِ
حتى انتهيتُ إلى قولي :
ولما هبطنا الغيث تذعر وحشه ... على كل خوار العنان أسيل
وثارت بنات الأعوجيات بالضحى ... أبابيل، من أعطاف غير وبيل
فصاح عنتر: لله أنت! اذهب مجاز. وغاب عنا. ثم ملنا عنه.


شيطان قيس بن الخطيم
فقال لي زهير: إلى من تتوق نفسك بعد من الجاهليين؟ قلت: كفاني من رأيت؛ اصرف وجه قصدنا أبي تمام. فركضنا ذات اليمين حينا، ويشتد في إثرنا فارس كأنه الأسد، على فرس كأنها العقاب، وهو في عدوه ذلك ينشد:
طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر، ... لها نفذ، لولا الشعاع، أضاءها
فقال لي: أنشدنا يا أشجعي، وأقسم أنك إن لم تجد ليكونن يوم شر


صاحب أبي تمام

ثم انصرفنا، وركضنا حتى انتهينا إلى شجرة غيناء يتفجر من أصلها عين كمقلة حواء. فصاح زهير: يا عتاب بن حبناء، حل بك زهير وصاحبه، فبعمرو والقمر الكالع، وبالرقعة المفكوكة الطابع، إلا ما أريتنا وجهك! فانفلق ماء العين عن وجه فتى كفلقة القمر، ثم اشتق الهواء صاعدا إلينا من قعرها حتى استوى معنا فقال: حياك الله يا زهير، وحيا صاحبك! فقلت: وما الذي أسكنك قعر هذه العين يا عتاب؟ قال: حيائي من التحسن باسم الشعر وأنا لا أحسنه. فصحت: ويلي منه؛ كلام محدث ورب الكعبة! واستنشدني فلم أنشده إجلالا له، ثم أنشدته:
أبكيت، إذ طعن الفريق، فراقها ....
فقال: زدني من رثائك وتحريضك، فأنشدته:
أفي كل عام مصرع لعظيم؟ ... أصاب المنايا حادثي وقديمي
هوى قمرا قيس بن عيلان آنفا، ... وأوحش من كلب مكان زعيم


صاحب البحتري
ثم قال لي زهير: من تريد بعده؟ قلت: صاحب أبي نواس؛ قال: هو بدير حنة منذ أشهر، قد علبت عليه الخمر، ودير حنة في ذلك الجبل. وعرضه علي، فإذا بيننا وبينه فراسخ. فركضنا ساعة وجزنا في ركضنا بقصر عظيم قدامه ناورد يتطارد فيه فرسان، فقلت: لمن هذا القصر يا زهير؟ قال: لطوق بن مالك؛ وأبو الطبع صاحب البحتري في ذلك الناورد، فهل لك في أن تراه؟ قلت: ألف أجل، إنه لمن أساتيذي،، وقد كنت أنسيته. فصاح: يا أبا الطبع! فخرج فتى على فرس أشعل، وبيده قناة، فقال له زهير: إنك مؤتمنا؛ فقال: لا، صاحبك أشمخ مارنا من ذلك، لولا أنه ينقصه. قلت: أبا الطبع على رسلك، إن الرجال لا تكال بالقفزان. أنشدنا من شعرك. فأنشد :
ما على الركب من وقوف الركاب .....
حتى أكملها، ثم قال: هات إن كنت قلت شيئا. فأنشدته
هذه دار زينب والرباب

حتى انتهيت فيها إلى قولي :
وارتكضنا حتى مضى الليل يسعى، ... وأتى الصبح قاطع الأسباب
فكأن النجوم في الليل جيش ... دخلوا للكمون في جوف غاب




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق